ثقافة وفن

ابحث عن العادات

| إسماعيل مروة

في كثير من مفاصل حياتنا الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية أيضاً نشهد ممارسات، ونقوم بممارسات، ونجد لها المسوغات بشكل دائم، ونكتشف في كل لحظة أن الحق إلى جانبنا، وأن الآخر هو المذنب، ويندر إلى حد كبير أن نجد من يقول: كنت مخطئاً، لم أكن على صواب! ويندر أن نسمع من يقول: صاحبي كان وفياً ولم أكن على قدر وفائه أنا! وما من واحد على الإطلاق حتى من أصحاب العلامات الدينية في أي شريعة أو مذهب أو طائفة يمكن أن يقول: إن ما أتحدث به ليس هو الحقيقة، بل هو في أحسن الأحوال، وفي الظن الحسن هو قراءة واجتهاد! فهؤلاء الأجلاء يجدون فهمهم الوحيد المنسجم مع النص، وإذا ناقشتهم، فإنهم يقولون لك: المراد كذلك! وبعضهم يدافع عن القراءات السابقة ويصل بها مرحلة التقديس، ولكن إن وجد رأياً فيه مصلحته نسي ذلك المقدس عنده..! أخطر ما في الحياة هي الانتقائية، أو التلفيقية، وبأن يأخذ الواحد جزءاً يناسبه وآخر يهمله، لا لشيء إلا لأنه لا يوصله إلى غاياته التي يراها، ولو بشكل مبطن صالحة وجيدة!

وهذا لا يقتصر على الجوانب العقدية، وإنما يصل مختلف الجوانب الحياتية والعلمية، وهناك كثير من الباحثين والاجتماعيين والسياسيين الذين يتبنون آراء محددة، ومن ثم يقومون بقسر كل شيء من أجلها، الأمور تظهر أكثر في الجوانب العقدية لأن سمة القداسة التي يحملها النص الديني لا تعطي الدارس فرصة الإلغاء أو النسف أو التغيير، بينما يكون ذلك ممكناً في جوانب الحياة الأخرى، فبإمكان الاشتراكي غض النظر عن الرأسمالية وبحوثها وكل ما فيها لأنها في الإطار العام لا تتفق معه، وكذلك الرأسمالي يرفض كل ما جاء في الفكر الاشتراكي جملة وتفصيلاً، وهكذا حتى تصبح النظرة الفاحصة أو الدارسة أو السائدة هي نظرة أحادية تقوم على رأي واحد لجهة واحدة، تزدهر حيناً من الوقت، ثم لا تلبث أن تبدأ بالتلاشي، ولا يمكن أن تكون الحلول إلا بالنسف أو التغيير النهائي، لأن مصلحة الأشخاص سلبت هذه الآراء قدرتها التوليدية التي تمنحها ديناميكية ومرونة، وتسمح لها بالتغيير والتعديل للوصول إلى حالة جديدة، وربما بعد وقت إلى حالة جديدة أخرى، وهكذا حتى يكون التجديد والإصلاح الفكري حركة دائمة هادئة تتم دون أن يشعر واحد بها، وتمنع المجتمع من الخضات الكبرى في كل ميدان سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو عقدي.. والغريب أن أولي الأمر في كل البلدان يعتمدون صنفاً من الملفقين القادرين على تحويل كل طرح إلى طرح هجين في خاتمة المطاف، وذلك بما يناسب رؤى أصحاب السياسة ومصالحهم، وهذا ما حوّل مقالة (صراع الحضارات) من مقالة علمية إلى كتاب يحمل نظرية، لأنه انسجم مع أصحاب المصالح، فمولوه وصار نظرية، وكذلك الأمر في (نهاية التاريخ) لأن الاصطفائية التي تقوم عليها القرارات هي التي ترعى الباحثين الجادين ومراكز أبحاثهم، وهنا أستثني المنطقة العربية التي لم تقدم مراكز الأبحاث، وخاصة في الدراسات غير أكوام من الورق والترجمات التي تتم، ولا تتابع الاستفادة منها في أي جانب من الجوانب!

إن أي شيء لدينا يخضع لمفهوم العادة، حتى العبادات العقدية لدينا تقع أسيرة للعادات، لذلك نجد هذا الاختلاف الكبير بين المناطق والفرق، لأنها لا تخضع للنص بقدر ما تخضع للعرف وتأويله..! وهكذا نجد حياتنا الاجتماعية خاضعة للعرف، وهذا أمر طبيعي، وحياتنا الاقتصادية والسياسية خاضعة للعرف لا للقواعد، فالأسرة والأسرة الممتدة والقبيلة والعشيرة والمذهب والطائفة، أضف إليها الانتماء والأحزاب، ومفهوم الإلزام الحزبي الذي ألبسوه لمجتمعاتنا تحت مسمى الالتزام.. كل هذه القواعد تحكم الحياة لدينا باستثناء المنطق والقواعد التي من المفترض أن تكون.

مهما كان الانتماء العقدي أو السياسي والحزبي هناك أسس ومعايير من المفترض ألا يخرج عنها واحدنا، لكن شريطة أن نعرفها، دون أن تكون الأحكام العشائرية هي المنطلق من باب (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) والذي تحوّل بفهم مصلحي إلى ضرورة اعتماد النصرة ولو على غلط، ومن ثم الدفاع عن الغلط، ومن ثم تكوّن جماعات بنت إمبراطوريات تقوم على كل شيء إلا القواعد، ولذلك نجد أباطرة الرأسمالية في مجتمع اشتراكي، لكن الاشتراكية تفرض على الناس، وكذلك نجد مجتمعاً اشتراكياً بدائياً يحتاج إلى الدعم لأن كل المخرجات بنيت عليه، يتحول بين عشية وضحاها إلى مجتمع هجين مدخلاته أقل من اشتراكية غزل البنات، ومخرجاته أعلى من أي مجتمع رأسمالي، ومع ذلك تجد من يعرض الفضل عليك وبأنك في مجتمع اشتراكي، ولو لم يكن ذاك بالعرف لاختلفت المحاسبات والحسابات والحكايات.. العُرف وليس الدين أو العقيدة أو الرأي الحزبي هو الذي يتحكم بالحياة، فنجد عبارات: كتب الله عليه، نصيبه، مبتلى، أكل نصيبه وغير ذلك، مع أن الأمر في المبادئ يختلف عن ذاك، فالعين بالعين، ولكم في القصاص، ومحاسبة، ومنطلقات وغير ذلك..

لقد استطاعت النخب السياسية والفكرية والاجتماعية أن تصل إلى مستويات عليا من اعتماد العادات والابتعاد عن الأسس الأصيلة التي تبني المجتمعات من كل جانب سياسي أو أخلاقي أو ديني أو اجتماعي.

لقد أهملنا جانباً الأسس التي تبنى عليها حياة الأفراد والمجتمعات والدول، وعدنا إلى العُرف الاجتماعي العشائري والقبلي والطائفي والمناطقي، وذلك بما يناسب الأهواء والمصالح وليس بناء الدول والإنسان.

فابحث عن العادات هي التي تحكم حياتنا، وتتحكم بكل مفصل من مفاصلنا..!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن