تل أبيب تريد هدنة.. لكن بشروطها!
| عبد المنعم علي عيسى
تشير المعطيات التي كرستها الأسابيع الستة الماضية، والتي هي عمر اندلاع النار على جبهة الجنوب اللبناني، إلى معطيين اثنين، أولاهما تفوق جوي- تكنولوجي إسرائيلي ليس من مصلحة أحد إنكاره، وثانيهما تفوق بري للمقاومة اللبنانية التي استطاعت كبح جماح الاندفاعة الإسرائيلية التي كانت تهدف، ولا شك، إلى تكرار سيناريو صيف 1982، لكن «مديرو» هذه الاندفاعة اكتشفوا، عبر محطات 21 و23 و27 من شهر تشرين الأول المنصرم، أن تكرار السيناريو سيكون أمراً مستحيلاً حتى ولو تحولت المنطقة ما بين الحدود ونهر الليطاني إلى «سجادة» مسطحة لا يحتوي تصنيعها على أي «حفر» أو «تضاريس»، والمؤكد هو أن «الاكتشاف» آنف الذكر، كان عاملاً فاعلاً في بناء المبعوث الأميركي، عاموس هوكشتاين، لتصوراته التي كان يهدف من خلالها لوضع قواسم مشركة من شأنها أن تفضي إلى اتفاق لوقف إطلاق النار ما بين طرفي النزاع.
وأشارت تقارير غربية وإسرائيلية، كانت قد نشرت في أعقاب لقاء هوكشتاين مع رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو يوم الخميس الفائت، إلى أن الأول استطاع التوصل، عبر جولاته المكوكية بين بيروت وتل أبيب، إلى طرح «مسودة اتفاق» يمكن لها أن تحظى بقبول الطرفين، والمسودة التي عرضتها «هيئة البث الإسرائيلية» تتضمن أحد عشر بنداً، لكن الأهم منها أربعة، وهي كافية لإيضاح الموقف الإسرائيلي الراهن ومن ثم الأسس التي ينطلق منها وصولاً إلى آفاق التفكير المستقبلي لديه.
أولى البنود المهمة، التي تتضمنها «المسودة» هي إقرار لبنان وإسرائيل بأهمية القرار 1701، الصادر في الـ11 من آب 2006، وثانيها أن التزام إسرائيل بالاتفاق لا يحرمها من حق «الدفاع عن نفسها» إذا لزم الأمر، أما الثالث فيقول بحق إسرائيل في «مراقبة الحدود السورية- اللبنانية» منعاً لـ«إدخال الأسلحة ووصولها إلى جهات لبنانية غير حكومية»، في حين يقول الرابع إنه «يتعين على الحكومة اللبنانية وفي غضون 60 يوماً من إقرار الاتفاق نزع سلاح أي مجموعة عسكرية غير رسمية في جنوب لبنان».
تشير هذه المعطيات، والتي هي مطالب إسرائيلية بالتأكيد، إلى أن إسرائيل تريد فعلاً وقفاً لإطلاق النار على الجبهة اللبنانية لسببين، أولاهما أن الجيش الإسرائيلي بات يعيش حالة استنزاف متواصلة لا يبين أفقها، ومن الممكن لها أن تؤدي إلى تداعيات غير محمودة على ضفة المعنويات والحالة النفسية، وثانيهما أن القيادة العسكرية الإسرائيلية ترى أن «ما تحقق» كافٍ للبناء عليه، والاستثمار فيه سياسياً، لكن مع ترك الباب موارباً لإمكان عودة الصراع من جديد، ما يشير إليه البند الرابع، في حال لم تفِ القيادة اللبنانية بالتزاماتها، ولربما يضاف إلى هذين الأمرين أمراً آخر يتمثل في خطأ الرهان الإسرائيلي الذي كان يقول إن جزءاً وازناً من اللبنانيين سيكون في مواجهة «حزب الله» بعيد التطورات الحاصلة منذ الـ17 من أيلول الماضي، وكذا بعيد التطورات التي أعقبت هذا اليوم وتمثلت باغتيال العديد من قادة الحزب، والمؤكد هو أن الرهان كان يقوم على أن انقلاب الداخل اللبناني على مقاومته سوف يصبح مسألة وقت فحسب، بمجرد دخول الدبابات الإسرائيلية لبضعة أمتار في الأراضي اللبنانية، وهذا من الممكن لمسه في تصريح أدلى به وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، قبل أيام جاء فيه: «ليس كل هدف يمكن تحقيقه بعملية عسكرية، ويجب أن نتوصل إلى تسويات مؤلمة».
الرغبة الإسرائيلية في التوصل إلى هدنة مع لبنان يمكن لحظها أيضاً عبر خبر وزعته وكالة «رويترز» وجاء فيه أن «وفداً روسياً قد حط في تل أبيب للتشاور بخصوص الهدنة»، ومن المؤكد أن الوفد الروسي لم يحط إلا بدعوة رسمية من «كابينت» الحرب، أما لماذا؟ فذاك لسببين، أولاهما أن هذه الـ«كابينت» تدرك الصلة «الطيبة» ما بين موسكو وحركات المقاومة في المنطقة، وثانيهما أنها تدرك أيضاً أن السياسات الغربية تجاه غزة، ولبنان، حرمت دولها من دور «الوسيط النزيه»، ولذا لا بديل من الاستعانة بوسيط داعم لعجلة الهدنة.
قد تصلح المسودة آنفة الذكر للبناء عليها، لكن ثمة ما يمكن تغييره، حتى بالاستناد إلى موازين القوى، فالوضع الإسرائيلي ليس زاهياً تماماً، والتقارير من داخله تقول بوجود نصف مليون نازح داخلي ومثلهم نصف مليون نزحوا للخارج، وجيشه يدفع أثماناً باهظة يومياً رغم كل هذا الإسناد والدعم الذي جير فيه الغرب 30 قمراً صناعياً لرقب «دبيب النمل» في مناطق الصراع، ثم أن الاقتصاد الإسرائيلي، كما تقول الـ«واشنطن بوست»، هو في أسوأ حالاته منذ الانتفاضة الأولى عام 1987، ولربما كانت عملية إدارة تلك المعطيات قادرة على إنضاج اتفاق بشروط أفضل.
نعى رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، يوم الجمعة الماضية عملية التفاوض قائلاً: إنها «وصلت إلى طريق مسدود» على خلفية رفض نتنياهو لـ«مسودة الاتفاق» آنفة الذكر، في حين ذكرت مصادر أخرى أن «الوصول إلى اتفاق هدنة لمدة 60 يوماً بات قاب قوسين أو أدنى»، والراجح هو أن اتفاقاً حقيقياً لن يسبق انقشاع الضباب الأميركي، يوم الـ5 من تشرين الثاني الجاري الذي سيشهد الانتخابات الرئاسية الأميركية، لكي يمكن أن يبنى على الشيء مقتضاه، فإذا ما فاز دونالد ترامب كانت رهانات نتنياهو «مفيدة»، وإذا ما فازت المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، فلسوف تجد روسيا نفسها أمام خيار وحيد لا ثاني له، ومفاده أن تقوم موسكو بدعم كل الدول، والأحزاب والحركات بل حتى الأفراد، المناهضين للغطرسة الأميركية، الأمر الذي يعني تنشيطاً للدور الروسي في المنطقة من جديد، ولربما ستكون عملية التأجيل الحاصلة في مصلحة لبنان الذي يمكن له الاستثمار في معطى جديد لا يقل أهمية عما سبقه إبان سعيه للوصول إلى اتفاق بشروط أفضل.
إلى أن ينقشع الضباب ستبقى الكلمة للميدان، وما يقوله هذا الأخير إن «خمسين ألف جندي إسرائيلي لم يستطيعوا التمركز ولو في قرية واحدة في الجنوب اللبناني»، وما سبق ذكره ليس مصدره إعلام المقاومة، بل جاء في سياق تقرير لصحيفة «يديعوت أحرونوت» نشرته يوم السبت المنصرم.
كاتب سوري