إرهاب وتــرهـــيــــب
| بقلم: أ. د. بـثـينة شــــعـبـان
بدلاً من أن تثير حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني منذ أربعة عشر شهراً على فلسطين ولبنان، الغضب والإدانة في العالم الغربي الذي يزعم أنه «متحضر»، فقد بثت الخطط الصهيونية إرهاباً نفسياً يهدّد كل من تسوّل له نفسه قول كلمة حق حول ما يجري، أو استنكار قتل الأبرياء من أطفال وأمهات ومدنيين وتشريدهم وتجويعهم في ممارسات تتجاوز كل القوانين والأعراف بما فيها قوانين الحروب، ومن أجل تحقيق ذلك تم اتباع أساليب لا تحصى من إضراب طوق على وسائل الإعلام العالمية ومنعها من نشر ما يجري، إلى كل ما هنالك من أنواع التهديد والابتزاز.
ولكن أن يقف رئيس سابق للولايات المتحدة الأميركية، عمل عن قرب من أجل عملية السلام بين العرب والإسرائيليين وانخرط في أدق تفاصيلها وأدرك في قرارة نفسه أن الإسرائيليين لا يريدون السلام، أن يقف على المنبر ويردد أكاذيب تلمودية وصهيونية لا تليق بمقامه وقد بلغ من العمر عتيا وتاريخه وراءه فهذا أمر يكاد يستعصي على الفهم.
حين رأيت الرئيس بيل كلينتون والذي تمّ وصفه خلال إدارته بأنه قد يكون أذكى رئيس عرفته الولايات المتحدة الأميركية وأصدق رئيس أميركي قارب عملية السلام بجدية، والذي عمل عن قرب على مفاوضات السلام بين العرب والإسرائيليين، ونسج علاقة إنسانية وصادقة مع الرئيس حافظ الأسد وكرّس وقته وجهده في البيت الأبيض وفي شيبردزتاون للتوصل إلى صيغة مقبولة بين الأطراف، أن يقف بعد كل خبرته على المنبر وألا يتجرأ أن يسمي إسرائيل بالاسم حين قال: «سأحاول إقناع الناس أنهم لا يستطيعون أن يعتمدوا الذبح كطريقة للخلاص»، فمن الذي يعتمد ذبح النساء والأطفال والمدنيين والأطباء والإعلاميين وتجريف أجساد البشر والحجر والمزروعات والحيوانات إلا إسرائيل وبقنابل وأسلحة تزودها بها الحكومات الأميركية المتعاقبة على اختلاف أحزابها دون فرق، أن يقول الرئيس كلينتون إن حماس تسعى أن تجعل إسرائيل غير قابلة للسكن، فهو يصف بالضبط ما ترتكبه إسرائيل بحقّ فلسطين على مدى 75 سنة مشؤومة وخاصة خلال أربعة عشر شهراً الماضية واليوم ترتكبه بحقّ الضاحية وبعلبك والبقاع ضد البشر والحجر في فلسطين ولبنان.
في ظل كلّ التجاوزات المجرمة وغير المسبوقة من احتلال واستيطان بغيضين أن يتحول العالم ورموزه السياسية والفكرية إلى حفنة من المهرجين الذي يقولون ما يتم إملاؤه عليهم، ويلتزمون بالنصّ المقدّم إليهم، وبالكلمات والسردية المملاة عليهم من مرتكبي جرائم الحرب والإبادة، فهذا أمر خطير بالفعل لأنه يسلب العالم من بقايا ضمير وإرادة حرة يشكّلان في أوقات الأزمات والحروب الأمل الأخير المرتجى لدى المستَضعَفين في الأرض والمغلوبين على أمرهم والذين يواجهون أعتى الأسلحة الغربية الفتّاكة بأدواتهم البسيطة وإيمانهم بقضاياهم وصبرهم على ابتلاء وامتحان مرير.
من المضحك المبكي بالفعل أن تنشر الـ«سي إن إن» مقالاً مطوّلاً تتحدث فيه عن الرضوض النفسية التي يتعرّض لها الجنود الإسرائيليون العائدون من غزة حتى أن البعض منهم أقدم على الانتحار، والبعض أصبح غير قادر على تناول اللحم لأنه رأى الكثير من «اللحم» بالإشارة إلى أجساد الأطفال والنساء والرجال الذين قتلهم جنود الاحتلال هؤلاء، في حين يشير سائق البلدوزر الإسرائيلي إلى «اللحم» الذي جرفه مع النفايات أيضاً بالإشارة إلى أشلاء جثث أطفال الفلسطينيين الذين قتلهم جيش الاحتلال وجرفتهم الجرّافات الإسرائيلية، وأنّ تذكّر هذا المنظر قد يحرمه النوم أحياناً دون أدنى تلميح أو تصريح عمّا تشكله هذه الارتكابات من جرائم جسيمة وغير مسبوقة بحقّ الفلسطينيين، واليوم بحقّ اللبنانيين أيضاً في الضاحية الجنوبية والبقاع.
هذا الرهاب الذي ينشره الإسرائيليون في كل أنحاء العالم من بطشهم وقدرتهم على ارتكاب أبشع جرائم الحرب والإبادة وإنزال العقاب بكل من يتحدّى سرديتهم البائسة هو أداة أساسية من أدوات حرب الإبادة التي يشنونها ضدّ الأمة العربية، والتي بدأت بفلسطين ومن ثمّ لبنان إلى حدّ الآن، ومالم ينتبه العالم إلى خطورة هذا الرّهاب فإنه قد يكون سبباً في إنزال أكبر الكوارث بالحياة البشرية ليس في الوطن العربي فحسب وإنما على مستوى العالم، لأن ما تشهده منطقتنا اليوم مرشّح جداً أن يمتدّ إلى مناطق أخرى بأشكال مختلفة خاصة إذا تمكن المرتكبون من كمّ الأفواه وتعطيل كلّ الأنظمة التي اعتادت على التصدّي لمثل هذه الارتكابات الخطيرة وغير المسبوقة.
فبعد أن قررت محكمة الجنايات الدولية أن إسرائيل ترتكب حرب إبادة في غزة، وبعد أن دعا رئيسها كريم خان إلى إصدار مذكرة اعتقال بحقّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وعدد من أعضاء حكومته تفتّقت موهبة الابتزاز الصهيونية عن اتهام كريم خان بالتحرّش بمحامية في المحكمة لتشويه سمعته أولاً، ولوضع العراقيل في طريقه كي لا يكمل مهمة الوقوف في وجه هؤلاء المجرمين الصهاينة ومحاسبتهم، وهذا الأمر يتكرّر بصيغ وأشكال مختلفة ومع أناس يعملون في مجالات مختلفة وفي بلدان وأماكن مختلفة سواء أكانت تعمل في القضاء أم في الأكاديميا أو في الإعلام أو في السياسة؛ فهناك من يقف لك بالمرصاد في اللحظة التي تقرر فيها أن ضميرك لم يعد يسمح لك بالصمت، وأنك لا بدّ وأن تقول كلمة حقّ حتى وإن اضطررت أن تدفع ثمنها، تجدهم هناك يتصدّون لك برهاب وابتزاز فكري ونفسي يختلف من حالة إلى أخرى ومن شأن إلى آخر.
هذا الرهاب النفسي هو المرحلة الجديدة من الإرهاب العسكري والتصفيات الجسدية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بكلّ قسوة وشناعة، ففي التقارير الدولية ورد أن قتل 182 صحفياً وصحفية في غزة وفلسطين ولبنان خلال عام واحد هو أعلى نسبة من الصحفيين تُقتل على مدى أعوام وفي حروب طويلة ومختلفة، وأن عدد الأطفال الشهداء في غزة يفوق عدد الأطفال الذين قضوا في الحربين العالميتين، وأن عدد الأطباء والجهاز الطبي والتمريضي الذين قتلوا في غزة يفوق عدد الجهاز الطبي الذي قضى في حريين عالميتين، بعد كلّ هذا وذاك يُحكم الإعلام قبضته على المعلومات ويمنع إيصالها إلى مبتغاها، وحتى حين تصل يمارس المرتكبون كلّ أنواع التهديد والابتزاز لكمّ الأفواه ومنع أحد من قول كلمة حقّ فيما يتمّ ارتكابه.
إذا كان الرئيس بيل كلينتون يخاف من الإرهاب الصهيوني وهو الذي في العشرية الأخيرة من عمره، والذي ترك تاريخه السياسي وراءه والذي وُصِف بأنه رئيس أميركي يريد السلام بين العرب والإسرائيليين، قد وقف على المنبر يردّد مقولات مغلوطة ويتّهم المقاومة في فلسطين بأنها هي التي لا تريد دولة فلسطينية، ولم يجرؤ ولو مرة واحدة إلى الإشارة لحقيقة ما يجري في فلسطين أو لبنان، بل ذهب ليؤكّد أنهم كانوا هناك قبل أن يتشكّل معتقدهم وقبل الملك دافيد بسرديات لا تليق به ولا بأي إنسان يملك قدراً أدنى من احترام الذات، إذا كانت هذه هي الحال مع الرئيس كلينتون فهذا يعني بأن الرُهاب الصهيوني النفسي والفكري على العالم برمّته قد وصل إلى حدّ يستدعي مقاومة حقيقية وصادقة ليس من أصحاب الأرض فقط وإنما من كلّ صاحب ضمير حريص على استمرار الأسرة الإنسانية وفق قواعد وأخلاقيات تضمن سلامة وكرامة الإنسان واحترامه والمنزلة الرفيعة التي خصّه اللـه بها عن باقي كلّ المخلوقات.