أتراها تكون كما الشعرة التي قصمت ظهر البعير؟
| عبد المنعم علي عيسى
من بين التدريبات التي يتلقاها عداؤو المسافات الطويلة بالدرجة الأولى، تدريبان مهمان، أولهما المحافظة على قدرة العدو للمسافة التي يحددها نوع السباق، وثانيهما ضبط الأنفاس والأعصاب خلال الـ50 متراً الأخيرة، التي غالباً ما يهتز فيهما هذان الاثنان الأخيران، ليس بفعل الجهد المبذول فحسب، بل بفعل الإثارة التي تتداخل فيها عوامل عدة مثل التنافس والجمهور ثم الجوائز المنتظرة، والتدريب إياه يعطي أفضلية لهذا الأمر الأخير على باقي التدريبات، ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه، فالانضباط في اللحظات الحرجة كان على الدوام أمراً أساسياً في الوصول إلى النتائج المرجوة في العديد من المباريات وخصوصاً منها تلك التي تشهد حالاً من التوازن في أداء طرفيها، وكذا الأمر في ميادين المباريات الانتخابية التي يصح توصيفها كسباق ماراثوني له تدريباته الخاصة به، لكن الأبرز منها هو كيفية تعامل المتسابق مع الـ100 متر، أو حتى الـ50 متراً الأخيرة.
في حمأة السباق الانتخابي، وعلى مبعدة نحو 10 أيام من حسمه، قام الممثل الكوميدي توني هينتشكليف، خلال تجمع انتخابي، بسرد نكتة عن البورتوريكيين، وهي بالمطلق لم تكن «لائقة»، وعندما حاول الرئيس جو بايدن الاستثمار في الحدث انتخابيا جاءت النتيجة كارثية، فأثناء رده على قول أحد المتحدثين أمام تجمع انتخابي بنيويورك واصفاً الجزيرة بأنها «جزيرة قمامة عائمة»، بدا الرئيس العجوز وكأنه يكرس فصلاً أخيراً من «كسل الحواس» الذي سبق أن اتهمه به خصومه، فهو رد: «القمامة الوحيدة التي أراها تطفو هي مؤيدو ترامب».
كان من الصعب على الحملة التي قادها البيت الأبيض لاحتواء تداعيات «زلة اللسان» أن تحقق الكثير، بل إن «ترقيع» بايدن نفسه جاء ليضفي على الحدث طابعاً إشكالياً من نوع آخر، فعندما يصحح الرئيس بقوله: «إن شيطنة اللاتينيين أمر غير مقبول، هذا كل ما أردت قوله، فالتعليقات التي أدلي بها في ذلك التجمع لا تعكس هويتنا كأمة»، يجب أن يكون السؤال عمن أساء أولاً لتلك الهوية، فأن يسم 41 بالمئة من الأميركيين، هم النسبة التي تؤيد ترامب وفقاً لآخر استطلاعات الرأي، بـ«القمامة» فذاك أمر يتعدى الإساءة لتلك الهوية ليصل إلى مدارك أخطر من نوع العمل على تفكيكها.
لربما تفعل تلك «الزلة» فعل الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وخصوصاً أن أغلبية استطلاعات الرأي التي نشرت خلال الشهر الأخير تشير إلى تساوي حظوظ الطرفين تقريباً، وإذا ما كانت هناك أرجحية لطرف فإن هذه الأرجحية غالباً ما تكون طفيفة، بمعنى أنها ليست حاسمة، ولذا فإن أدنى خطأ أو زلة قد تكون شديدة التأثير وخصوصاً في معسكر «الرماديين» الذين لا تحسم مواقفهم إلا في لحظات السبق الأخيرة، والسؤال الذي لا بد لـ«الزلة» أن تفرضه على ذهنية هؤلاء الأخيرين عما إذا كان «الحزب الديمقراطي» يحترم جميع الأميركيين، أم إنه «يحتقر» كل أولئك الذين لا يوافقونه الرأي سياسياً.
خريف عام 2016، الذي شهد احتداماً للسباق بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، وصفت الأخيرة مؤيدي الأول بالـ«بائسين»، الأمر الذي أدى إلى تحفيز قاعدته الانتخابية ضدها، بل إلى انزياح نسبة لا بأس بها من «الرماديين» أيضا في ذلك الاتجاه، الأمر الذي أكدته نتائج استطلاعات الرأي، في حينها، والتي كانت تؤكد كلها تفوق كلينتون على ترامب، ولربما تشكل «زلة» بايدن، مدخلاً لتكرار ذلك السيناريو، وخصوصاً أن الزلة الأخيرة كانت أخطر، وبما لا يقاس، من «زلة» كلينتون التي جاءت مخففة بمعيار الألفاظ المستخدمة.
قد تكون انتخابات 5 تشرين الثاني الجاري الأميركية هي الحدث الأهم في تاريخ الكيان بعد حدث 4 تموز 1776م الذي شهد الإعلان عن قيام اتحاد الولايات الأميركية، والفعل ناجم عن اعتبارات عدة أبرزها انتقال الصراع بين الأطراف من المستوى النسبي، الذي كان عليه طوال ما يقرب من قرنين ونصف القرن، إلى المستوى المطلق الذي تمظهر بمظاهر عدة أبرزها الجدل الدائر على مستويات عدة بين «الديني» و«العرقي» وصولاً إلى «الهوياتي»، والفعل لمجرد حصوله بالحدة التي ظهر عليها كاف للقول إن ثمة «اختناق» هو أشبه بعنق الزجاجة بات على الجميع الخروج منه، ومن تلك الاعتبارات، جدلية «الخارجي- الداخلي» التي برز الأول فيها كأولوية طاغية على الأخير، وذاك أمر يحدث للمرة الأولى، إذ لطالما كانت السياسات الداخلية على الدوام هي المحور الذي تدور حوله البرامج الانتخابية على مدار 46 جولة مضت، ومن المؤكد أن رجحان «الخارجي» هنا مؤشر إلى وصول التهديد بفقدان البلاد لموقع «الهيمنة/ القيادة» العالمية إلى درجات غير مسبوقة.
أميركا أمام مفترق طرق، فإما أن ينجح «العبور» من عنق الزجاجة بتثبيت روحية «التصالح» المجتمعي، التي سادت طويلاً وكان لها دور كبير في تثبيت الاستقرار الذي لعب دوراً بارزاً في وصولها إلى ما وصلت إليه، وإما أن يفشل الفعل عينه فينتج عنه حالة «صدام» مجتمعي من الصعب الآن التخمين إلى أين ستفضي، أو ما النتائج التي يمكن أن تصل إليها.
كاتب سوري