مجرد ندبة
| حسن م. يوسف
حدجني بنظرة يمتزج فيها الفضول بالتعالي وشيء من الاحتقار وقليل من الإشفاق، كنظرة القاضي من فوق قوس المحكمة للمتهم الذي يراه للمرة الأولى! شد على يدي وهو يهز رأسه متلفتاً كما لو أنه يبحث عمن يشهدون له بأنه قد ضبطني متلبساً بفعل غير لائق. نقلت عيني بين يده الضخمة وجبينه الضيق وشاربيه العريضين، فأدركت أنه لم يسبق لي أن رأيته في حياتي.
قال منشداً بيتين للمتنبي من دون مناسبة: «مات في البرية كلبٌ /فاسترحنا من عواهْ/ أنجب الملعون جرواً / فاق في النبح أباهْ!»، لزمت الصمت لأنني لم أعرف مناسبة إنشاده لهذين البيتين، فقال وهو يضحك: «يشهد الله أنني فكرت أن أبعث لك رسالة تهنئة لأن غريمك (فلان) الذي كان يفتري عليك قد مات»! أجفلت كما لو أنني قد رشقت بسطل ماء بارد، قلت بأقصى ما أستطيعه من هدوء: «الموت بالنسبة لي حد فاصل يحسم كل خلاف، ومن يشمت بموت أحد ما يكون أكثر موتاً منه!». شفط الهواء من خيشوميه كما لو أن كلامي لم يعجبه. ألقى عليَّ نظرة متأملة وهو يميل إلى اليمين والشمال، قال مقلداً لهجة المساعد جميل في برنامج حكم العدالة: «رأيت لقاءك مع رابعة الزيات. هل ما زلت عند الكلام الذي قلته في ذلك اللقاء؟».
سحبت يدي من يده الضخمة فابتسم بمزيج من التشكيك والاستخفاف وأردف قائلاً: « هل ما زلت، بعد كل ما جرى، تعتقد أن (إسرائيل) إلى زوال، وأن مستقبلها هو مجرد ندبة في تاريخ المنطقة؟»، قلت له بجدية تامة: «نعم، أنا أومن بهذا الأمر أكثر من أي وقت مضى، والجرائم الشنيعة التي اقترفتها وتقترفها في غزة ولبنان لا تنفي هذا الأمر بل تؤكده».
رمقني الرجل بنظرة إشفاق، كشر كما لو أنه يشم رائحة غير مستحبة، همَّ أن يقول شيئاً، لكن دوره على الصرَّاف الآلي كان قد حان، فرسم على وجهه ابتسامة نصف حامضة، وزمَّ شفتيه محركاً يده اليسرى كما لو أنه يكش ذبابة عن وجهه، ثم استدار وأولاني قفاه!
انتابني شعور بالغيظ، فرحت أفكر بما يجب أن أقوله له، لكنه قطع عليَّ تفكيري إذ أطلق شتيمة بذيئة لأن الصراف الآلي خرج عن الخدمة فجأة. تعالت غمغمات المنتظرين بالدور، بينما نظر الرجل نحوي وعلى وجهه تلك الابتسامة نصف الحامضة ولوح لي بيده مكشراً عن أسنان عليها آثار التدخين، وانفتل مبتعداً.
رن جرس هاتفي معلناً وصول رسالة جديدة من صديق يقيم خارج البلاد مفادها «أن كل وسائل الإعلام الرئيسة في الغرب لم تعد تذكر عدد الشهداء في غزة من دون الإشارة إلى أن المصدر هو وزارة الصحة الفلسطينية الـ(تابعة لحماس)، لأن جو بايدن قد أعرب مؤخراً عن عدم ثقته بأرقام الضحايا كما تعلنها تلك الوزارة!».
قلت في سري: إنهم متفقون كلصوص في عصابة واحدة!
أعترف أن سياسة الدول الغربية القذرة تجاه القضية الفلسطينية وحرب غزة بشكل خاص، تحثني على أن أكفر بالغرب جملة وتفصيلاً، لكنني ما إن أتذكر المظاهرات التي قام ويقوم بها طلاب الجامعات والناس العاديون في تلك البلدان ضد الإبادة الجماعية، حتى أردد في سري مقولة المفكر القومي العربي الأستاذ أنطون مقدسي: «كل يأس من الإنسان هو خطأ لا يغتفر».