حضارة تدمر في عين الخطر…الإنسانية الكاملة الرابضة في قلب الصحراء
مها محفوض محمد:
تدمر أو بالميرا ارتبط اسمها باسم ملكتها زنوبيا التي بدت كأسطورة من الأساطير جعلت من مدينتها أجمل مدن الشرق القديم نافست روما في عظمتها ومكانتها لتبقى إرثاً حضارياً عظيماً تهافت إليها الزائرون من شتى أنحاء العالم واستأثرت باهتمام علماء الآثار والباحثين المستشرقين والرسامين فهي على قائمة التراث العالمي لا يعادلها أي موقع أثري وهذا ما يبوح به الزائر الغربي عند زيارته لتدمر وغيرها من المواقع السورية فقد سمعنا الكثير منهم يقول: تدمر شيء مختلف لها فرادتها عن باقي المواقع الأثرية لها سحر خاص يشعر به من زارها لأنه أمام حضارة عظيمة لا مثيل لها.
لذا قد لا يكون هناك غرابة في انشغال وسائل الإعلام الغربي خاصة والصحافة المكتوبة لما يحدث في تدمر ودخول الإرهاب الداعشي إليها إنما الأمر لافت جداً إذ تكاد لم تبق صحيفة أوروبية تقريباً إلا وتناولت هذا الموضوع وقاربتها في ذلك الصحف الأميركية، الأمر الذي لم يحصل باستهداف داعش للمواقع السورية الأخرى وآثار الموصل في العراق وغيرها في تلك المنطقة وقد يكون لهذا الحراك الإعلامي دوافعه وغاياته لكن لابد أن هناك أصواتاً تخشى حقيقة على المدينة الأثرية من الهمجية وتدعو إلى دق ناقوس الخطر من هؤلاء المؤرخ الفرنسي موريس سارتر المختص بتاريخ سورية القديمة حيث كتب إلى مجلة التاريخ الفرنسية مقالاً عنوانه: «تدمر في خطر».
يقول فيه: داعش تسيطر على مدينة تدمر الأثرية وتدميرها سيكون كارثة، نعم إن التهديد حقيقي وكبير فبعد الفيديوهات التي تبثها داعش عن عمليات التدمير التي قامت بها في الموصل ونيفين ونمرود وحترا نحن أمام مواجهة مع مجموعات لا تمت للإنسانية بصلة أي هي لا تحمل الطابع الإنساني فكل القيم التي يعتبرها الغرب قيماً كونية عامة هي بالنسبة لهؤلاء مذمومة مرفوضة يجب محاربتها إنهم يسلكون الطريقة ذاتها التي كانت تسلكها النازية وخاصة سلوكهم تجاه النساء والأطفال بوحشية لا يمكن تصورها.
هذه المجموعات الإرهابية بفكرها الظلامي والذهن الملبد بمحاربة التماثيل التي تعتبرها أصناماً ومفهومها المجرد من أي معرفة بالتاريخ هي اليوم مستعدة أن تنسف أي تاريخ للإنسانية تعتبره خارجاً عن سياق الدين الذي تعتقد به، طبعاً هذه هي الواجهة التي يعتمدها رؤساء هذه التنظيمات الذين يديرون عمليات نهب الآثار ويتقنون فن تحويل العملات بالسعر الأعلى للآثار التي ينهبونها، وأود التذكير أن الخبراء قدروا في العام 2014 عائدات تهريب الآثار بمبلغ مئة وخمسين مليون دولار وهو المصدر الثاني لهم بعد البترول (2 مليار دولار) فهؤلاء يدمرون كل شيء لقد رأينا في صور الأقمار الصناعية كيف اختفت صروح كانت في حلب وخاصة في المنطقة المحيطة بالقلعة علينا ألا نستخف بالخطر المحدق فهو كبير أما الأخطر في تدمر فهو نهب المدافن وخاصة الموجودة تحت الأرض مع أنها مغلقة بأبواب ثقيلة من الحجر وحواجز مشبكة إذ كانت التماثيل النصفية التي تزينها قد سرقت وبيعت في أنحاء مختلفة من العالم.
إننا نتلقى بانتظام تقارير واضحة من مدير المتاحف السوري وأنا شخصياً خائف جداً على مدينة الرصافة وهي مدينة رائعة تعود إلى العهد البيزنطي (مملوءة بالكنائس) ليست بعيدة عن الرقة أي هي تحت التهديد المباشر لداعش فكثير من المواقع هناك لحق بها الأذى كما تظهر صور الأقمار الصناعية وخاصة في مواقع دورا أوروبوس وماري لكن ثمة مواقع لا يتم الحديث عنها أبداً أيضاً لا نعرف شيئاً عن المدن الميتة شمال سورية ومنذ أيام شاهدت فيديو تظهر فيه زمرة من النساء من جبهة النصرة مقنعات تماماً يتدربن على إطلاق النار بالرشاشات وهن بجانب أنقاض كنيسة سان سيميون.
وعن سؤال لماذا استحوذت تدمر على كل هذا الاهتمام عن غيرها من المواقع يقول موريس سارتر: تستحوذ تدمر على الاهتمام الأكبر لأنها على الأرجح الموقع الأثري الوحيد في سورية يعرفه العالم كله سواء ذهبوا إليه أم لم يذهبوا وأكثر من ذلك فإن تدمر موطن الخيال السوري وأروع من يمثل الماضي المجيد مع ملكتها زنوبيا الأيقونة الوطنية، إذاً هو تراث غالٍ على السوريين وليس بالأمر السهل أن يمسه أحد كما لو أن أحداً يهاجم قصر فرساي في فرنسا أو قلعة مون سان ميشيل ولو أن ذلك يماثلها قليلاً.
وبعيداً عن الأثر العاطفي فإن تدمر لها أهميتها الخاصة في نظر المؤرخين فنستطيع القول إنها مثل مئات المواقع الأثرية السورية تمتلك تاريخاً وبقايا آثار تساهم إلى أقصى حد في فهم تاريخ سورية القديم ثم إن الأعمال الأخيرة كانت قد بدأت في إخراج بعض الآثار إلى النور وهي التي تمثل الحقبة المتأخرة وخاصة ما تبقى من الإسلام والمسيحية فهناك ثلاث كنائس وأسواق تدل على العيش المسيحي الإسلامي فيها ومن جانبها وضحت البعثة السورية الألمانية أهمية الأحياء الجنوبية التي تعود إلى ثلاثة قرون قبل عصرنا هذا وما زالت عشرات الهكتارات لم يصلها التنقيب وما من شك أن اكتشافات مهمة سنجدها في التنقيب المستقبلي (نأمل ذلك).
وكما هو معروف فإن تدمر حاضرة الإمبراطورية الرومانية كما أخذت طابع مظهر مدينة يونانية- رومانية جميلة جداً فهي تحتفظ بمعالم فريدة من نوعها فضلاً عن نظامها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والديني والفني، هي مدينة جامعة لأجناس مختلفة فيها نصوص رسمية منقوشة باليوناني وكنظام أو منهج في القسم الشرقي أيضاً موجودة باللغة الآرامية التي كانت اللغة المحلية السورية كما تمتلك مدافن عظماء وهذا يترجم تماماً السلطات المتعددة التي مارست حكمها مع آلهة من البلد كإله الواحة الكبير بيل ومعاونيه، وآلهة سورية وفينيقية وآشورية وبابلية وكلدانية وأيضاً يونانية (هيرقل).
أيضاً لابد من الحديث عن دور تدمر المهم في التبادل التجاري بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد الشرق والهند والصين فعبر تدمر كان يصل الحرير الصيني إلى روما والتوابل والعطورات ولآلئ الخليج العربي حيث كانت تدمر تنظم قوافل التجارة وتحميها «فقد أسندت إليها روما أن تحمي جيشها الذي كان بمنزلة الحرس الوطني في الصحراء مع جوانب حدود الإمبراطورية» وتجعلها تستفيد من المرابط التي تمتلكها في بلاد الرافدين وحتى الخليج، أما عملية البحث في مجتمع تلك المدينة فلا يقل إثارة عن غيره إذا ما تعرفنا بعمق على النخب الهلينية وارتباط ذلك المجتمع بتقاليده السامية كما نفهم من قراءة هذه الآثار أن صاحب البيت كان يقوم بديكور منزله بالموزاييك المشغول بأيدي فنانين جاؤوا من أنطاكيا كما يذهب إلى اجتماعات المجلس مرتدياً ثوب قضاة وكأنه من وجهاء الرومان لقد رأينا ذلك على غطاء التابوت الحجري.
المهم الآن إنقاذ تدمر، علينا تجييش جميع القدرات وتحريك السياسيين- حيث الصمت يصم الآذان- لا أن نكتفي بكتابة المقالات وإصدار الكتب كما فعلت أنا وزوجتي حيث خصصنا كتاباً لزنوبيا التاريخية ولنقل إننا شهدنا بعض الأخطاء المرتكبة في روايات عن زنوبيا تعتم على دورها التاريخي وهو دور عظيم لا يمكن فهمه من دون تحليل الأخطار التي تعرضت لها سورية في تلك الحقبة.
إن الأسباب التي تدعونا للتحرك من أجل إنقاذ تدمر كثيرة وقوية فهي من أجل ممتلكات ثقافية تشكل ذاكرة شعوب فتدمر ذاكرة ليست للشعب السوري فقط إنها جزء من ذاكرة الإنسانية جمعاء الراقدة هناك في رمال الصحراء وحين زيارة هذه الآثار يختلج قلب الزائر بشعور يعجز الوصف عنه وتمنحه ذكريات لا تنسى، فهل ستبقى ذاكرتنا وتاريخنا ومعه مستقبلنا رهنا في أيدي هؤلاء القتلة؟