أردوغان من أوائل المهنئين
| عبد المنعم علي عيسى
منذ وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى سدة السلطة في أنقرة عام 2002 تناوب على البيت الأبيض رؤساء أربعة، جمهوريان وديمقراطيان، وما تشير إليه المحطات الفارقة خلال تلك الفترة المديدة، هو أن العلاقة التركية الأميركية كثيراً ما كانت تتأرجح على وقع العديد من الأحداث التي فرضت حيناً نوعاً من التلاقي، الذي كان بعضه قسرياً، كما فرضت في أحيان أخرى نوعاً من الصدام، الذي غالباً ما كانت تجري لملمته لاعتبارات تتعلق بحقيقة مفادها أن أنقرة لا تقوى على «الخصام» الأميركي، وهو إن طال فإن حركاتها تضطرب حتى ليتبين ذلك في البسيط منها، والمؤكد هو أن هذه الحالة كانت قد تمظهرت بشكل صارخ إبان عهد الرئيس جو بايدن الذي مر ثقيلاً عليها، وهي كانت تعد الزمن بالأيام والساعات بانتظار الإعلان عن مغادرة هذا الأخير لمكتبه الذي يتحكم من خلاله بالكثير مما «يعوق» الحركة التركية التي بدت في عهده مكبلة بأكثر من سلسلة وبأكثر من قيد.
صحيح أن تلك العلاقة لم تكن هنيئة مع «ترامب الأول» ما بين 2016 – 2020، وهي بالمطلق شهدت نوعاً من التشاد الذي فرضه تواتر الأحداث وتضارب المواقف، فمع رفض واشنطن ترامب تسليم قيادات «الكيان الموازي»، وهو المصطلح الذي استخدمته أنقرة لتوصيف حركة «خدمة» التي أسسها فتح اللـه غولن الذي اتهمته الأخيرة بالوقوف وراء انقلاب تموز 2016، كان التوتر قد بلغ أشده، فلا شيء أصعب للأنظمة من احتضان معارض يعمل من أجل الإطاحة بها، والفعل يقرأ في السياسة على أنه فعل تكريس للعداء ذاهب نحو حدوده القصوى، وكنتيجته ردت أنقرة بتقارب مع موسكو بدا وكأنه تجاوز الخطوط الأميركية الحمراء عبر إعلانها عن إتمام صفقة صواريخ إس 400 الروسية بكل ما يرمز إليه الفعل من انتهاك لسماوات الـ«ناتو»، وعليه ردت واشنطن بفرض عقوبات على أنقرة كان الأبرز منها استبعادها من برامج تصنيع الـ«F 35»، ومن ثم معاقبة المصرفي هاكان أتيلا بتهمة خرقه للعقوبات المفروضة على إيران، تلاها تهديد ترامب بتدمير الاقتصاد التركي إذا لم يتم إطلاق سراح القس الأميركي أندرو برونسون، وما جرى هو أن ترامب حصل على ما يريد بعد إرساله رسالة قيل إنها «مهينة» للرئيس التركي، لكن بالمقابل شهدت المرحلة عينها ضوءاً أخضر لعملية «نبع السلام» التي شنتها القوات التركية شهر تشرين الثاني من العام 2019، واستطاعت من خلالها السيطرة على مساحة تقرب من 3500 كيلو متر مربع تمتد ما بين تل أبيض بريف الرقة الشمالي وصولاً إلى رأس العين بريف الحسكة، قاطعة بذلك الطريق الدولي M4، لكن أنقرة نظرت للفعل، والضوء، على أنهما ناقصان وهي كانت تأمل بالمزيد منهما بغرض السيطرة على كامل الشريط الحدودي الممتد ما بين رأس العين والمالكية تحقيقا لما تراه أبعاداً للخطر الأمني عن كامل حدودها الجنوبية.
قد تشكل هذه التجربة بالنسبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أرضية يمكن البناء عليها مع «ترامب الثاني»، وهو من دون شك سوف يسعى إلى نسج علاقة مستجدة، تفيد من الأولى بكل عثراتها ونجاحاتها، لكن الراجح أن تكون سورية هي نقطة البداية والنهاية، في تلك العلاقة المأمولة، والشاهد هو أن أردوغان نظر إلى سياسات الخلف، جو بايدن، على أنها شديدة السلبية خصوصاً لجهة دعمه لـ«قوات سورية الديمقراطية- قسد» على الرغم من أن الموقف التركي من الحرب الروسية- الأوكرانية كان متناغماً مع العديد من رغبات بايدن الذي رمى بذلك كله، بل و«جحد» فيه، وفقاً للنظرة التركية التي عبر عنها أردوغان مراراً في تصريحات كانت تبرز «شكواه» من عدم التفهم الأميركي لضرورات «الأمن القومي التركي».
نقلت العديد من التصريحات التي تلت فوز ترامب بالانتخابات ميلاً لدى هذا الأخير لسحب قواته من مواقعها شمال شرق البلاد، ومن المؤكد هو أن «الأذن» التركية كانت تطرب لتلك التصريحات بدرجة لا تفوقها سماع أي «نغمة» أخرى، فمن جهة ترى أنقرة أن انسحاباً أميركياً مفترضاً من سورية سوف يؤدي تلقائياً إلى تقارب لحظي- عملي ما بينها وبين دمشق، وهذا بالضرورة سيؤدي للتضييق على «حزب العمال الكردستاني» الذي ما انفكت تعمل على حصاره على كامل جبهات التماس معه، ومن جهة ثانية فإن الفعل سيكون أقرب لتسليم أميركي بالدور الروسي «المطلق» في سورية والذي تراه أنقرة أكثر قرباً لرؤاها وتلبية لمصالحها، وهي من دون شك ستكون أكثر ارتياحاً لتطورات من هذا النوع على الرغم من أرجحية تباطؤ خطواتها التي مشت بها نحو «بريكس» مؤخراً لاعتبارات عدة لعل أبرزها سياسات «الحمائية» الاقتصادية التي ستعود، ولا شك، من جديد فور ولوج ترامب إلى البيت الأبيض، والترجيح هنا يعود إلى أن أنقرة تبدي أولوية للعوامل الجيوسياسية، التي تجدها مهددة لوحدتها، على أي عوامل أخرى بما فيها الاقتصادية على الرغم من أهميتها بالنسبة لاقتصاد تركي بدا متعثراً بدرجة كبيرة في غضون العقد الفائت.
لم يتأخر أردوغان في تهنئة ترامب بعد فوزه، وهو غرد على «منصة X» واصفا الفائز بـ«الصديق»، داعياً إياه لبذل كل ما يستطيع لأجل خلق عالم «أكثر عدالة»، متمنياً منه العمل من أجل «إنهاء الأزمات والحروب الإقليمية والدولية».
أردوغان باختصار سيعمل منذ اليوم على تحضير «الحصيرة» اللازمة لضمان عدم سقوط «الثمار» على الأرض.
كاتب سوري