قضايا وآراء

ترامب الثاني يُخضِع السياسة للاقتصاد والمال

| د. قحطان السيوفي

بعد أن انتهت المصارعة الحامية للحملة الانتخابية في الولايات المتحدة بدأت الصحافة الأميركية تفتح ملفاً جديداً، ماذا عن دونالد ترامب رقم 2 في البيت الأبيض؟

مجلة الـ«فورن أفيرز» المؤثرة، طرحت عدداً من القضايا يمكن أن تقع تحت عنوان شامل أن «ما يصلح للحملة الانتخابية لا يصلح للإدارة الدولية»، على أساس مقارنة سلوك ترامب السياسي في الدورة السابقة له في البيت الأبيض بين 2016- 2020، مع توقع ما يمكن أن يتم في الدورة الجديدة 2024- 2028، والتي تبدأ في كانون الأول 2025.

شخصية ترامب تؤكد أنه يفضل الموالين في توزيع المناصب ويتجاهل، كما فعل في دورته الأولى، كل توصيات المؤسسات الرقابية على بعض الأشخاص ممن اختارهم، ذلك خلاف ما كان يقوم به الحزبان في تاريخ تبادل السلطة الطويل في الولايات المتحدة.

ترامب اليوم هو ثاني رئيس أميركي يعود إلى البيت الأبيض، واثبت قدرته على ابتعاثِ نفسه من تحت الرماد، رغم مرارة الخروج المُذلِّ قبل أربع سنواتٍ، وقسوة المُلاحقة بالإدانة في اتِّهاماتٍ جنائية، كما أنَّ سُرعةَ العودة، والقدرة على ترميم الشعبية واستعادة الحظوظ، ما كانت لتتيسَّر له لو أنَّ وارثيه في البيت الأبيض أحسنوا العمل، وقدَّموا بديلاً مُقنِعاً.

ترامب، الولاء عنده هو الأهم، وقد اشتكى عدد من مستشاري الأمن القومي، الذين عملوا معه في الدورة الأولى ثم استقالوا أو أقصاهم، من الأمثلة مع جون بولتون وهو سياسي محافظ متطرف، بأن ذلك السلوك قد يكون مفيداً في إدارة الشركات، وليس الدول.

المراقبون يتخوفون من أن يعاد ذلك السلوك من جديد، لذلك ينتظرون من هم الأشخاص الذين سوف يعينهم ترامب في إدارته الجديدة والذين بدأ يعلن عنهم تباعاً.

من المعروف عن دونالد ترامب أنّه يُخضِع السياسة للاقتصاد والمال، وليس العكس، حيث تكون السياسة في خدمة الاقتصاد، فهو لا يستنزف الميزانيات في خوض الحروب، فالأصل عنده هو المال والصفقات الرابحة، أمّا السياسة فليست سوى رافد للاقتصاد.

كيف سيتعاطى ترامب مع الحرب الأوكرانية، التي تعتبر العقدة الكبرى الآن في العالم، وقد يجبر الأوكرانيين على الجلوس مع الروس، ما يخيف حتى الفزع عدداً من دول أوروبا، ما دفعها للنظر في خيارات أخرى، ومن بينها محاولة إقناع ترامب بالتروي، وأيضاً بناء قوة أوروبية عسكرية.

هذا الملف سوف يكون حاسماً في رسم المستقبل في أوروبا والعالم وستكون أمام ترامب امتحانات عديدة في مقدّمها الامتحان الأوكراني، وسيرسم هذا الامتحان ملامح العلاقة بين أميركا وأوروبا ومستقبل حلف شمال الأطلسي الذي لا يكن ترامب وداً كبيراً له، والسؤال: أي علاقة يريد ترامب مع أوروبا؟ وهل يترتب على أوروبا إعادة النظر في كلّ ما له علاقة بتسليح جيوشها في حال بات عليها مواجهة روسيا من دون أميركا؟

تصريحات رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، تشير لذلك حيث أكد أن الاتحاد الأوروبي لديه شكوك بشأن استمرارية دعم أوكرانيا بعد فوز دونالد ترامب، وقال: إن «الأوروبيين أصبحوا أقل استعداداً» لتمويل صراع أهدافه غير واضحة بالنسبة إليهم، وهذا يفتح الباب للتفاوض مع روسيا، ووقف الاستنزاف العسكري والاقتصادي والمالي.

ترامب يقول لا أُفضل الحروب لأنّ كلفتها باهظة، عسكرياً واقتصادياً، لذلك يرى البعض أن الحروب ستتوقف بعد أن فاز بالرئاسة.

بالنسبة لفلسطين كانت ولاية دونالد ترامب الأولى بمنزلة كابوس مزعج، لاتخاذه قرارات مجحفة بحقهم؛ من نقل السفارة إلى القدس وقطع المساعدات عن «أونروا» وعن السلطة الوطنية وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن كإجراء عقابي لرفضها صفقة القرن، وصلافته الكبيرة في الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، ضارباً بكل القرارات الأممية عرض الحائط، الأمر الذي دعا حلفاء دمشق وخصومها في آن واحد، إلى إدانة تصريحات ترامب، ولكن الثابت أنّ ترامب، في ضوء طبيعة علاقته مع رئيس وزراء حكومة العدو بنيامين نتنياهو، قد لا يكون قادراً على وقف الوحش الإسرائيلي في غزة ولبنان، أقلّه في المدى المنظور، أي قبل دخوله البيت الأبيض بعد حوالى شهرين، والشخصيات التي اختارها كمستشارين للتعاون معه في الشرق الأوسط، تشير الى المزيد من «التضييق» على الشعب الفلسطيني، ولا سيما في الضفة الغربية المحتلة، إذ يُنظر إلى كل من مبعوث ترامب للشرق الأوسط، وسفير واشنطن لدى تل أبيب، على أنّهما صهيونيان حليفان للمستوطنين الإسرائيليين.

تتوجس القيادة الفلسطينية من توجهات ترامب المنحازة لإسرائيل بشكل أعمى، ولكن في ظل المذبحة الجماعية والتعاطف العالمي مع القضية الفلسطينية، يرى بعض المراقبين نوعاً من التفاؤل في ظل العلاقة الاقتصادية الوثيقة التي تربط ترامب ودول الخليج العربي وفي مقدمتها المملكة السعودية التي كانت أوّل دولة يزورها حين فاز بالانتخابات للمرة الأولى، ووقّع معها على اتفاقيات تتجاوز 400 مليار دولار.

ويرى بعض المراقبين أنه ربما تظهر بعض الدعوات لانعقاد مؤتمر للسلام يكون عرابه ترامب، أسوة بمؤتمر مدريد للسلام في العام 1991.

المراقبون يرون أن ترامب سيستهدف طهران اقتصادياً والمس بمصالحها الحيوية بشكل خاص، مع استبعاد أي استهداف عسكري لها وعليهِ فالعداء الإسرائيلي، والأميركي، لطهران في الشرق الأوسط سيستمر قائماً على قدم وساق، وقد مزّق ترامب الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة سلفه باراك أوباما مع «الجمهوريّة الإسلاميّة» صيف العام 2015.

ليس ما يشير إلى أنّ هموم الإدارة الأميركيّة الخارجية ستكون محصورة بإيران وبما تنوي إسرائيل عمله، فهناك الصين وكيفية التعاطي معها.

إنَّ كلَّ ظروف ترامب تعزِّز النرجسيَّةَ والافتتانَ بالذات، ولا سيِّما مع إقرار المنافسين سريعاً بالخسارة؛ وقد تُغريه بالفردانيَّة الكاملة،

ترامب قد يُحدِث تغييراتٍ في أجندته الخاصة، وربما لهذا يقلق الأوروبيِّون، ولا يَطمئنُّ الروس والصينيِّون تماماً، ويُراوِح الإيرانيِّون والإسرائيليون مواقعَهم بين الريبة والترقُّب، إنه رجلُ كلِّ الحالات والاحتمالات، وينظرُ لمهامِّه من زاوية «البيزنس مان» مَعنِيّاً بحسبة الربح والخسارة، وإنَّ صداقته العميقة مع نتنياهو لا تكفي لتجميد مذبحة الإبادة الجماعية في غزَّة ولبنان.

تأسيساً على ما سبق، ترامب رقم 2 يُخضِع السياسة للاقتصاد والمال، ولا يمكن التفاؤل بحقبته المقبلة وتأثيرها على منطقتنا العربية، ولا سيما أن تصريحاته بخصوص القضية الفلسطينية تتشابه مع تصريحات القادة الإسرائيليين وربما تتجاوزها في بعض الأحيان.

وزير وسفير سوري سابق

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن