أحلام كبيرة!
| عصام داري
في مقتبل العمر كانت تراودنا أحلام كبيرة كنا نظن أننا مع الأيام والسنوات قادرين على تحقيقها، لأننا بكل بساطة كنا نظن أننا بإرادتنا وعزيمتنا قادرون على تحويل تلك الأحلام إلى حقائق.
كنا فيما مضى نتحدث عن المستقبل وعن تلك الآمال الكبيرة والطموحات متواضعة، لكنها مشروعة، وأحلام وردية، وحياة أحلى، وأيام أجمل.
كان الحلم أن نبني عشاً نركن إليه في آخر يوم متعب، ورفيق عمر يشاركنا كسرة الخبز وحبات الزيتون والزعتر، والجبنة والبطاطا، وعن فسحة سماوية نطل منها على سماء وطن جميل.
وكانت الأبواب مشرعة أمامنا، والطرقات سالكة، وحضن الوطن يتسع للجميع، كالأم الحنون توزع حبها على أبنائها كافة، مع حبة دلال إضافية هنا، وحبة عتب هناك.
كنا وكان الزمن الجميل والمواويل والعتابا والميجانا، وعزف ربابة حيناً، وبحة ناي حزين حيناً آخر يجعلنا نتمايل طرباً، ويفتح بوابات الخيال للشعر والغزل والحنين.
اليوم نعود إلى تلك الذكريات فلا نرى إلا أوراقاً محترقة، ودفاتر عتيقة وحكايات لم تعد ترضي أحداً، لأننا دخلنا عصراً صار فيه الشعر جريمة والفن عاراً والحكايات نوعاً من إضاعة الوقت والهبل!.
العش الصغير الذي حلمنا به في بداية مشوارنا في الحياة، صار حلماً مستحيل التحقق في ظل الارتفاع الهائل لأسعار البيوت، والحديث صار عن المليارات، فسعر البيت، حتى لو كان في الأطراف والأرياف، يبدأ بالمليار، ويتصاعد كلما اتجهنا نحو المدن ويصبح الرقم فلكياً عندما نصل إلى الأحياء الراقية.
تابعت قبل أيام تحقيقاً مصوراً حول ارتفاع أسعار البيوت، والطريف أن معظم الناس كان عندهم جواب واحد عن سؤال يقول: ما المهنة التي يمكن أن تؤمن لك بيتاً، فكان الجواب الموحد «حرامي» أي لص، وذهبت بعض الإيجابيات إلى أن السفر قد يؤمن البيت.
المستقبل الذي كنا نحلم به أصبح اليوم والغد، وصارت الأحلام الوردية سلسلة كوابيس، وحتى «عروسة الزيت والزعتر» صارت باهظة الثمن لذوي الدخل المحدود لارتفاع سعر الزيت والزعتر، بحيث لم تعد هذه «العروسة» في متناول الفقير.
نتمنى أن نتلف دفتر الذكريات، وننسى الماضي، بحلاوته ومرارته، ونغلق بوابة أيام الزمن الجميل لكن المفاتيح ضاعت في ظلمة المكان، وصار الماضي الجميل يؤنبنا، يسومنا بالسياط، يعذبنا مع مرور كل ثانية من حياتنا البائسة، فنحن جاحدون متمردون كافرون بكل قيم ومثل من كانوا قد عبّدوا لنا شوارع المستقبل وزينوا نوافذه بشتلات الياسمين والفل والبنفسج، وتركوا لنا إرثاً لا ينضب من الحكم والآداب والفنون، وسلة ممتلئة عن آخرها بالعنب والتفاح والخوخ والحضارة الراقية.
لا نريد إغلاق خزائن الذكريات، فربما نعالج جروح الحاضر بترياق الماضي الجميل، ربما نحمي أنفسنا من الغول الذي يحاول ابتلاعنا ونسف ماضينا وتدمير حاضرنا ومستقبلنا، ربما نستعيد الرشد ولو «ضحى الغد» كما قال طرفة بن العبد يوماً، ربما ننقذ ما بقي لدينا من إنسانية ومحبة ووفاء للأرض التي نعيش بخيراتها، والوطن الذي تدثرنا عباءته بفخر واعتزاز، ودعونا نتحلَّ ببقايا حفنة أمل، ونحاول إقناع أنفسنا بأن «بكرا أحلى»!.