قضايا وآراء

الاغتيالات الإسرائيلية لن تنهي صراعاً بل ستزيد من تأجيجه

| عبد المنعم علي عيسى

منذ أن جرى الإعلان عن انطلاق «منظمة التحرير الفلسطينية»، في اليوم الأول من عام 1965، كانت الاستراتيجية الإسرائيلية تتبنى، في واحد من أفرعها الأساسية، سياسة اغتيال القادة من الصفين الأول والثاني، والهدف المتوخى من الفعل أن يُحدث، من الناحية المادية، انقطاعاً ما بين سلاسل وهياكل التنظيم الذي أعلن نهجاً يتبنى خيار السلاح طريقاً وحيداً لنيل حقوق شعبه المغتصبة، ويحدث، من الناحية المعنوية، ضعفاً في صفوف القواعد بعد غياب قياداتها بشكل مفاجئ، ما قد يؤدي إلى انهيار المنظومة وفقاً للتقديرات الاستراتيجية سابقة الذكر.

وعليه فقد كانت المهمة الأولى المنوطة بجهاز الاستخبارات الإسرائيلي الخارجي «الموساد» هي ملاحقة قيادات منظمة التحرير الفلسطينية حيثما وجدوا، وبعد نحو عقدين كانت التقديرات تقول بعبثية الفعل ما لم يجر ضرب العمق الذي يمد تلك الأفرع بعوامل القوة، وفي صيف العام 1982، نجحت إسرائيل، عبر الاستثمار في ظرفين، إقليمي ودولي استثنائيين، بالوصول إلى «عمق» ذلك التنظيم الذي كانت تمثله بيروت منذ «اتفاق القاهرة» عام 1969 الذي شرعن استهداف الأراضي المحتلة انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، ومن حيث النتيجة قاد الغزو الإسرائيلي للبنان إلى اتفاق قضى بمغادرة قيادات منظمة التحرير للأراضي اللبنانية، وعلى رأسهم ياسر عرفات خريف العام 1982، ومع ذلك ظلت سياسة الاغتيالات هي الطافية على سطح الاستراتيجية الإسرائيلية فقد نفذ سلاح الجو الإسرائيلي صباح 1 تشرين أول 1985 غارة على مقر منظمة التحرير بـ«حمام الشط» بتونس راح ضحيتها 68 شهيداً منهم 50 فلسطينياً بينهم 13 من قيادات الصفين الأول والثاني.

ولد «حزب الله» من رحم الاجتياح الإسرائيلي للبنان، كحركة مقاومة تتبنى العمل المسلح للدفاع ضد الغزاة، وفي متابعة لحظات «الولادة» يمكن الجزم بأنها حدثت في أحد أيام شهر آب 1982، أي حتى قبيل مغادرة منظمة التحرير للأراضي اللبنانية، والاستراتيجية عينها كانت هي نفسها المعمول بها إسرائيلياً تجاه الحزب، فقد جرى اغتيال أمين عام حزب الله، عباس الموسوي، عام 1992، ثم اغتيال أمينه السابق حسن نصر اللـه شهر أيلول المنصرم، وفي أتون الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عام 1987، ولدت «حركة المقاومة الإسلامية – حماس» كردة فعل على خيارات منظمة التحرير التي كانت تباشيرها تلوح في الأفق منذرة بذهاب المنظمة إلى «اتفاق» يتبنى خيار التفاوض بديلاً من السلاح، لتبرز من جديد سياسة الاغتيالات الإسرائيلية في التعاطي مع تلك الحركة بدءاً من اغتيال مؤسسها الشيخ أحمد ياسين، عام 2004، ووصولاً إلى اغتيال رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار شهر تشرين الأول المنصرم، بل إن بعض التقارير تشير إلى أن «الموساد» أيضاً هو من قام باغتيال عرفات بعدما تأكد لديه بأن الأخير عمد إلى مد «أغصانه» نحو انتفاضة العام 2000 إيماناً منه بعبثية «أوسلو».

في كل الحالات السابقة لم تؤد استراتيجية الاغتيالات الإسرائيلية، الغايات المرجوة منها، حتى على المستوى التكتيكي، ففي الحالة الأولى، التي نقصد بها منظمة التحرير الفلسطينية، وإن ظهر أن تلك الاستراتيجية قد دفعت بهذي الأخيرة إلى سلوك خيار «أوسلو»، إلا أن ذلك لم ينه الصراع الذي ولدت على جنباته حركة حماس، والاغتيالات التي طالت كوادر الحركة، بما فيها تلك الكثيفة الحاصلة منذ 7 تشرين أول 2023، ولكنها لم تدفع بالحركة إلى خيار إلقاء السلاح، بمعنى آخر لم تؤد إلى انكسار إرادة مقاتليها الذين ما انفكوا يحيلون أرض غزة إلى رمال متحركة تحت أقدام الغزاة، وحال من هذا النوع يؤكد لا واقعية إعلان تل أبيب عن تحقيق أهداف عمليتها العسكرية التي أريد لها، بالدرجة الأولى، أن تمحو آثار «الطوفان» التي ثبت أنها لن تمحى، تماماً كما لم تمحَ ملامح «النكبة» من الذهنية الفلسطينية.

على الضفة اللبنانية، ضفة الصراع مع حزب الله، لم تكن الوقائع مخالفة للقواعد آنفة الذكر، فسياسة الاغتيالات التي تكاثفت ضد كوادر وقياداته الحزب منذ منتصف شهر أيلول المنصرم، لم تؤد إلى تقليص قدرات الحزب الذي لا يزال ممسكاً بالميدان البري، وما يظهره أداؤه في الجنوب يؤكد أنه استطاع ترميم صفوفه والتكيف مع التطورات التي عصفت به، والمؤكد هو أن سياسة الاغتيالات لم تزد مقاتليه إلا تصميماً على القتال، والراجح أن الفعل لن يفضي هو الآخر إلا إلى بروز قيادات أكثر فعالية في الميدان، وهي، مدفوعة بعامل الانتقام الذي يضاف إلى نهجها العقائدي الصارم، سوف يكون على موعد مع انبثاق مفاهيم وآليات جديدة لإدارة الصراع قبيل أن تنتهي جولاته الراهنة.

ما نريد قوله هو أن سياسة التدمير التي تترافق مع ضرب البنى والهياكل التنظيمية لفصائل المقاومة ضد إسرائيل، لن تجدي نفعاً، وهي لن تكون كفيلة بالوصول إلى حل سياسي، كما لن تكون قادرة على إبطال القضايا المحركة للصراع مهما بلغ عتيها، ومهما بلغ حجم الإسناد والدعم الذي تتلقاه من غرب باتت زعامته على المحك، صحيح أن ذلك يحدث لاعتبارات عديدة، لكن الأبرز منها هو التساؤلات التي راحت مدياتها تتسع حول «البعد الإنساني والحضاري» في سلوك وممارسات الكيان تجاه صراع باتت مشاهده تذكر بسلوك النازية التي شكلت محاولات استئصالها عاملاً وقاعدة ابتنى المجتمع الدولي الراهن مشروعيته على أساسها منذ أن ظهر، العام 1945، بالشكل الذي نعرفه به.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن