قضايا وآراء

مبادرة وقف إطلاق النار في عنق الزجاجة

| محمد نادر العمري

مازال مسار وقف إطلاق النار في لبنان، يشهد سجالاً محتدماً ما بين أطراف الصراع المباشرة وغير المباشرة، ولاسيما في ظل أجواء من التفاؤل المفرط الذي حاولت الولايات المتحدة الأميركية نشره من خلال تصريحات مسؤوليها ووسائل الإعلام المختلفة والتي كان آخرها تصريح مبعوثها عاموس هوكشتاين بعد اجتماعه لمدة ساعتين مع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، بعد التصعيد الميداني الذي شهدته جبهة جنوب لبنان منذ منتصف شهر أيلول الماضي.

التفاؤل في احتمالية التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في لبنان وعودة ضخ الدماء للمبادرات السياسية والتي كان آخرها مشروع المبادرة التي قدمتها الولايات المتحدة الأميركية نهاية الأسبوع الماضي وأوصلتها لحزب الله بشكل غير مباشر عبر السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون، جاءت بعد حدثين أو تطورين مهمين لا يمكن تجاهلهما أو فصلهما عن إحداث هذا الدفع ضمن مسار التفاوض، الأول يتمثل في عدم نجاح المشروع الإسرائيلي ومن خلفه الدعم الأميركي في اجتثاث وإسقاط المقاومة اللبنانية ممثلة بحزب الله من خلال استهداف الحاضنة الشعبية واغتيال الصف الأول من القادة وفي مقدمتهم الأمين العام للحزب حسن نصرالله، وفق ما اعترف به رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في كلمة له أمام الكنيست مساء الاثنين الماضي، قبل أن تلجأ لاتباع سياسة الأرض المحروقة فيما بعد بشكل تدريجي ومتزامن بين قرى ومدن الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية قبل أن تتوسع دائرة بيكار الاستهداف لتشمل قرى ومدن البقاع، إذ سعت الاستراتيجية الإسرائيلية عبر ما تم تبنيه من سياسات عدوانية مختلفة الأشكال والأوجه في لبنان، إلى إحداث سقوط مدوٍ للحزب شعبياً وعسكرياً ومعنوياً وإعلامياً، بما يمكن تل أبيب من استغلال حالة الفوضى والفراغ الذي يحدثه ذلك من تمكين بعض قوى ما تعرف بـ١٤ آذار من الهيمنة على المشهد السياسي استنادا على القوة الإسرائيلية على غرار ما شهده لبنان في اجتياح حزيران١٩٨٢، إضافة لما لذلك من تأثير وتداعيات تنعكس على التوازن الإقليمي يؤدي إلى تراجع مكانة محور المقاومة بالمنطقة، أما التطور الثاني فيتجلى في تبلور نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية والتي أفضت إلى فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب، وخسارة إدارة الديمقراطيين التي قامت باستبدال الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن بالمرشحة كامالا هاريس، إذ شكل ذلك عاملاً مهماً ومؤثراً في ضخ الدماء مجدداً لمبادرة وقف إطلاق النار، لكون إدارة بايدن تخلصت من عبء الحسابات الانتخابية، ما خلق لديها الرغبة بتحقيق إنجاز سياسي على مستوى السياسة الخارجية يسجل لها قبل رحيلها، مقابل سعي الرئيس المنتخب دونالد ترامب لعدم الإنشغال بالملفات الخارجية على حساب أولويته بإعادة ترتيب الوضع الداخلي الأميركي وهو ما يفسر منح ترامب الضوء الأخضر للمبعوث الأميركي هوكشتاين لإنجاز هذه المهمة خلال الأيام الماضية، رغم أن الأخير يعد جزءاً من إدارة الديمقراطيين.

بالعودة لصيغة الاتفاق المطروح، والذي يتضمن وفق التسريبات ثلاثة عشر بنداً، من أبرزها وفق هذه التسريبات، هو ما أشارت إليه قناة «كان» الإسرائيلية التي كانت قد كشفت عما سمي بعض تفاصيل مسودة اتفاق التسوية بين لبنان والكيان استناداً لما نشره موقع «أكسيوس» الأميركي من المقترح، والذي يقضي بوضع 5 آلاف جندي لبناني في المناطق الجنوبية للدولة، كما يقضي بتعهد إسرائيل بعدم مهاجمة لبنان وإعادة ترسيم الحدود البرية بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، ويتضمن المقترح، حسب الموقع، التزام حزب الله وإسرائيل بقرار مجلس الأمن 1701، وانتشار الجيش اللبناني بوصفه قوة مسلحة وحيدة في جنوب لبنان، إلى جانب قوات حفظ السلام الأممية «يونيفيل»، كما يشمل المقترح المقدم منع إعادة تسليح الجماعات المسلحة غير الرسمية في لبنان، وأن يكون بيع أي أسلحة للبنان أو إنتاجها داخله تحت إشراف الحكومة اللبنانية، كما إنه يتضمن منح القوى الأمنية اللبنانية صلاحيات «الإشراف على إدخال الأسلحة عبر الحدود اللبنانية والإشراف على المنشآت غير المعترف بها من الحكومة والتي تنتج الأسلحة، وتفكيكها وتفكيك أي بنية تحتية مسلحة لا تلتزم بالالتزامات الواردة في الاتفاق». ووفقاً للتسريبات، يتضمن المقترح الأميركي أيضاً انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان خلال 7 أيام ليحل محلها الجيش اللبناني تحت إشراف دولي، إضافة إلى نزع سلاح المجموعات المسلحة جنوب نهر الليطاني خلال 60 يوماً من توقيع الاتفاق.

انفتاح لبنان وحزب الله على مناقشة مسودة الاتفاق، لا يعني أنه لا يوجد ملاحظات أو تحفظات تشكل اليوم سجالاً بين المفاوض اللبناني والوسيط الأميركي، قبل أن يتم نقلها إلى الطرف المعتدي داخل الكيان، إذ وفق التقديرات فإن هذه النقاط التي تتمثل في تمسك لبنان بموضوع صون السيادة وعدم السماح للكيان الإسرائيلي بانتهاك السيادة والتزام الجميع بتطبيق القرار 1701 دون فرض صيغ بديلة أو معدلة عليه، فضلا عن ضبابية دور ومهام الأطراف المنخرطة في لجنة متابعة تطبيق الاتفاق، حيث تعد كل منها تحدياً حقيقياً لاختبار مدى جدية الوسيط الأميركي للتوصل لاتفاق يوقف حدة الصراع على مستوى المنطقة، ولاسيما من حيث اختبار النيات الإسرائيلية، التي حتى هذه اللحظة مازالت تمارس سياسة المناورة والإيحاء بعدم جديتها بالتوصل لأي اتفاق وخاصة مع رفع جدية التهديدات الإسرائيلية المتزامنة مع بعض التطورات الميدانية والمتمثلة في:

أولاً- خلال اجتماع للجنة الخارجية والأمن بالكنيست (البرلمان)، وضع نتنياهو، مساء الاثنين الماضي، ثلاثة شروط للتهدئة في لبنان، تتمثل في إبعاد حزب الله عن الحدود الشمالية، ووقف خطوط إمداده عبر سورية، وضمان حرية عمل الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان.

ثانياً- ممارسة وسائل الإعلام اليمينية ضغوطاً لعدم القبول بأي اتفاق يوقف العدوان على لبنان، بما في ذلك موقع «ميدا» المتطرف، المحسوب على نتنياهو، الذي نشر سلسلة مقالات يعارض فيها وقف الحرب مع لبنان في الظروف الحالية، ويحتج على النية بقبول مسودة الاتفاق الذي جلبه هوكشتاين. وكذلك ما نشرته صحيفة «يسرائيل هيوم» من نداء نسبته لجنرالات في الاحتياط تابعين لليمين يناشدون الحكومة احتلال الأراضي اللبنانية حتى الليطاني أولاً، ومواصلة ضرب حزب الله وإزالة أي تهديد من الشمال، وبعد ذلك يمكن استخدام جنوب لبنان ورقة مساومة في عملية السلام مع لبنان وضمها فيما بعد للاتفاقيات الإبراهيمية.

ثالثاً- إعلان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية الانتقال للمرحلة الثانية للتوغل البري الإسرائيلي في لبنان بالتزامن مع طرح الوسيط الأميركي لمبادرة وقف إطلاق النار، استتبعها تطور ميداني عسكري لافت تمثل في إدخال المدفعية الإسرائيلية إلى داخل الأراضي اللبنانية والذي بررها نتنياهو «بتوجه إسرائيل لتشديد الضغط العسكري في الهجمات على لبنان بانتظار رد بيروت على مسودة اتفاق وقف النار التي اقترحتها الولايات المتحدة»، وهو ما يوحي بممارسة التفاوض تحت ضغط النار.

رابعاً- الغموض الذي يكتنف موضع الدول الأعضاء في لجنة متابعة تطبيق الاتفاق خلال 60 يوما، إذ تصر إسرائيل على انضمام ألمانيا وبريطانيا إلى جانب الولايات المتحدة، وهذا البند يؤكد غياب الأمم المتحدة بشكل مباشر وإن كانت متمثلة بوجود قوات «يونيفيل»، كما أن ألمانيا ممثلة في الـ«يونيفيل» فلماذا يعاد طرح وجودها في اللجنة، بينما تعد بريطانيا من أكثر الدول الحليفة للكيان، وكذلك واشنطن التي هي وسيط، كما أن هناك النقطة المتعلقة بقيام الجيش والقوات الأمنية بتفكيك كل المظاهر المسلحة في الجنوب حيث تشكل وسيلة للزج بالجيش باقتتال مع حزب الله عبر افتعال حالات مشبوهة، فضلاَ عن أن المطالبة بنشر الجيش اللبناني في الجنوب يتطلب امتلاكه قوات ردعية، فهل ستتخذ الدول الغربية قراراً بتسليح الجيش ومساعدته لكي يتمكن من تجنيد عناصر في صفوفه تحتاج لموارد مالية وتجهيزات لوجستية؟

بالعموم مسودة الاتفاق مازالت قيد النقاش والمحادثات حتى اللحظة في الساحة اللبنانية، دون وجود أي ضمانة أميركية لاحتمال تطبيقه من الكيان الإسرائيلي في حال التوافق مع المفاوض اللبناني، وخاصة المعارضة الإسرائيلية وفي مقدمتهم زعيم حزب «معسكر الدول» بيني غانتس، طالبوا بمنح الجيش الإسرائيلي، في أي اتفاق لوقف إطلاق النار، حرية الهجوم على لبنان في حال حدوث أي انتهاك، فهل هذا يشكل مناورة إسرائيلية للتملص من الضغوط الأميركية لاستمرار عدوانها وإفشال أي احتمال من أجل التوصل لاتفاق من خلال اتهام المقاومة اللبنانية بوضع الشروط على غرار ما كان يحصل في مسار المحادثات الفلسطينية وتحميلها مسؤولية المحادثات فيما بعد.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن