«العصا» ترتد على مصمميها
| عبد المنعم علي عيسى
لم يكن يخطر ببال أولئك الذي سعوا إلى استحداث «المحكمة الجنائية الدولية»، التي تأسست عام 2002 في هولندا بناء على «نظام روما» المعلن عنه في هذا العام الأخير نفسه، أن تلك المحكمة التي عرفت باسم «محكمة إفريقيا» لسنوات طويلة بعد الإعلان عنها قبيل أن يعلن المدعي العام فيها، كريم خان، في أول مقابلة له جرت في أعقاب قبوله لطلبات تقدمت بها جنوب إفريقيا بغرض النظر في احتمالية ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب في غزة، عن أنه قيل له، عشية تنصيبه، إن المحكمة «مصممة خصيصاً لروسيا وإيران»، وبقوله ذاك يتضح أن الهدف الأساسي من إنشاء تلك المحكمة هو صناعة «عصا» للتلويح بها بوجه المتمردين، وإذا لم ينجح الفعل في تحقيق المرجو منه فلا بديل عندها من الانتقال من التلويح إلى الاستخدام، نقول لم يكن يخطر ببال هؤلاء فعلاً من نوع أن ترتد «العصا» على «مصمميها» فيذهب حاملها نحو اتخاذ قرار يقضي بـ«جلد» بعض من نسجها، بل إن ذاك «البعض» يمثل «درة التاج» لذاك النسيج الذي ما انفك يعمل على إبقائه كياناً استثنائياً، وهو يعلو فوق أي حساب أو عقاب، كفعل لازم وكافٍ، لبسط هيمنته على منطقة تفور بالكثير من التحولات التي يمكن لها أن تغير الكثير من التوازنات الدولية، وهي ستكون ضارة بـ«المصممين» في حال خرجت، تلك التحولات، عن الضوابط التي يسعى الأخيرون إلى رسمها بعناية فائقة.
أصدرت «الدائرة التمهيدية الأولى» بـ«المحكمة الجنائية الدولية» يوم الخميس 21 تشرين الثاني الجاري مذكرتي اعتقال بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، بتهمة «ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية في المدة الواقعة بين 8 تشرين أول 2023 و20 أيار 2024»، وعلى الرغم من أن القرار قال إنه استند على مذكرات تصنف في خانة السرية حفاظاً على أمن الأفراد التي قدموها، إلا أن المحكمة قررت الكشف عن الكثير من تلك المذكرات نظراً لأن «السلوك المماثل الذي تناولته مذكرة الاعتقال يبدو أنه مستمر»، والحدث بكل تفصيلاته يمثل سابقة لـ«الجنائية الدولية» التي استطاعت الخروج من «العباءة» التي ألبست إياها عشية القرار بظهور «كيانها» للعلن، على الرغم من أن ما أصدرته ليس قراراً اتهامياً مكتمل الشروط، انطلاقاً من أن القرار يعتبر كلاً من نتنياهو وغالانت «مشتبهاً بهما» و«ينبغي استجوابهما بعد توقيفهما»، وذاك بالتأكيد، لوحده، يمثل فعل خروج تام من تحت العباءة آنفة الذكر.
نظرياً، باتت 124 دولة، هي عديد الدول الموقعة على ميثاق المحكمة، ملزمة باعتقال من صدرت بحقهما مذكرات توقيف إذا ما مرا بأراضيها، أو حتى في مياهها الإقليمية، إلا أن الفعل سيبقى في حيزه النظري على الرغم من أن أغلبية الدول الأوروبية، ومعها دول أخرى، كانت قد أعلنت عن امتثالها لقرارات المحكمة، بل إن بعضها، مثل هولندا وإيطاليا، أضاف بأن نتنياهو وغالانت سيكونان عرضة للاعتقال إذا ما زارا أراضيهما، فالموقف الذي أبدته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه القرار يشير إلى نزعة واضحة بضرورة «كسر العصا التي اصطنعناها بأيدينا»، وفق ما يقرأ من أغلبية التصريحات التي صدرت عن أرفع مسؤوليها، أما مرشح دونالد ترامب لمنصب مستشار الأمن القومي، مايك والترز، فقد ذهب إلى إطلاق تهديدات تجاه المحكمة قال إنها ستكون موضع التنفيذ فور وصول إدارة ترامب إلى سدة السلطة في واشنطن، وهذا يشير جدياً إلى مسعى أميركي حقيقي قد يذهب إلى استهداف المحكمة بشتى السبل والخيارات، بما في ذلك الاستهداف الشخصي لأعضائها، طالما أن إلغاءها أمر مستحيل، ناهيك عن أن المحاولة لوحدها ستدخل الولايات المتحدة في صدام حقيقي مع حلفائها على الضفة الأخرى من الأطلسي.
رسم كريم خان، مدعي عام «المحكمة الجنائية الدولية»، عبر مذكرتي التوقيف آنفتي الذكر، مشهداً مهماً لخريطة تراصف القوى على ضفتي الصراع الدائر في المنطقة منذ نحو 14 شهراً، وفي ذلك المشهد، بدت الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، أشد عزلة مما كانتا عليه في أي يوم من الأيام، وإذا ما كانت الأخيرة تبدو مهتمة فقط بـ«حبل المشيمة» الرابط ما بينها وبين واشنطن فحسب، فإن الأولى لا يكفيها ذلك الحبل، الذي يربطها بـ«ذراعها» الشرق أوسطي، والذي يوفر لها شروط هيمنتها في تلك المنطقة، في الوقت الذي بات فيه، هذا الأخير، يمثل عبئاً على بقية الروابط والتشبيكات المستخدمة لتفعيل تلك الهيمنة.
أمر آخر لا يقل أهمية عما سبق، فالقرار الذي اتخذه خان يمثل انتهاء الصلاحية لـ«مشرط» كان شديد الفاعلية على مدار نحو ثمانية عقود، إذ لطالما كان من الصعب على أي كان، دولة أو منظمة أو فرد، مواجهة اتهام من نوع «معاداة السامية» التي حاكته الصهيونية كدرعٍ واقٍ لا يقل فاعلية عن القوة العسكرية في حماية الكيان، وهو كان مدركاً، بقراره ذاك، أنه سوف يكون في مواجهة «تهمة» من ذلك العيار، الأمر الذي يمكن لمسه في رده على تلك الاتهامات في مقابلة له، قبل أيام، مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية حين قال: «هل يجب أن أنتظر حتى يموت الجميع»؟ والمقصود: هل الخوف من «الاتهام» يجب أن يبقيني عاجزاً، عن فعل أي شيء، أمام فعل إبادة لا يشبهه إلا تلك الأفعال التي قادت إلى تسويق «معاداة السامية» كمفهوم يخشاه جل هذا العالم؟
كاتب سوري