تل أبيب والبياضة.. وخيارات الاتفاق أم الحرب
| علي عدنان إبراهيم
الأخبار التي وصلت تباعاً من بلدة البياضة الساحلية جنوب لبنان وعدّاد تدمير الميركافا الذي أطلقته المقاومة شرق هذه البلدة الصغيرة بمساحتها الاستراتيجية بموقعها، عاد بالذاكرة مباشرة إلى الثاني عشر من آب عام 2006 حين قرر الإسرائيلي فتح ثغرة في دفاعات حزب اللـه والوصول إلى نهر الليطاني عبر وادي الحجير فخسر في ساعات قليلة 40 دبابة ميركافا و20 جندياً فيما سمي وقتها مجزرة وادي الحجير والتي كانت سبباً رئيسياً في وقف الحرب والرضوخ للقرار الأممي 1701 بعد يومين فقط من هذه المجزرة، وعلى الرغم من أن القرار كان ينص على نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان، والقصد هنا حزب الله، وتراجع المقاتلين إلى ما وراء نهر الليطاني شمالاً، وكذلك انتشار الجنود اللبنانيين وقوات اليونيفيل في جنوب الليطاني، إلا أن معظم هذه البنود لم يتم العمل بها لسبب واحد بسيط هو أن المقاومة منبثقة من الشعب اللبناني نفسه، فالمقاتلون هم أبناء القرى الجنوبية وتراجعهم إلى ما وراء الليطاني أمر غير منطقي، كما أن انتشار قوات اليونيفيل والجيش اللبناني في الجنوب لا يمكن لهما أن يردعا أي توغل إسرائيلي، وحرب اليوم شاهدة حية على ذلك.
ما جرى في البياضة وبيانات حزب اللـه التي أكدت تدمير 5 دبابات ميركافا على الأطراف الشرقية للبلدة في يوم واحد يعكس جزءاً صغيراً من المشهد في حال قرر الجيش الإسرائيلي التوغل أكثر في الأراضي اللبنانية، وهو الذي لا يزال يقاتل منذ نحو شهرين عند حواف قرى النسق الثاني للحدود أي على بعد 5 كيلومترات فقط من حدود فلسطين المحتلة، فيما تعد معركة الخيام وحدها شاهداً على صعوبة المهمة، وهي حتى اليوم صامدة أمام عشرات آلاف الجنود المحيطين بها من الجنوب والشرق والغرب ورغم القصف المدفعي والغارات الجوية التي لا تتوقف، والتي سوت كل شيء داخل البلدة الاستراتيجية بالأرض، إلا أن سقوطها بيد العدو ممنوع، حتى أن توغل جيش الاحتلال غربها لقطع طريق مرجعيون- النبطية بات هدفاً يومياً لصواريخ المقاومة واستمرار هذا التوغل بات أمراً مكلفاً جداً، وبالإضافة إلى الواقع الميداني غير المفيد لإسرائيل في جنوب لبنان والذي لا يسمح لها بفرض أي شرط، فقد أظهر حزب اللـه بالتزامن مع الحديث عن اقتراب توقيع اتفاق ينهي الحرب، شيئاً من قدراته الصاروخية، وأذاق تل أبيب وحيفا ونهاريا في آن واحد طعم النار في يوم وصف بالأشد عنفاً منذ بداية الحرب عبر إطلاق ما يزيد على 300 صاروخ رأى العالم كله آثارها المدمرة في قلب الكيان المحصن بالدفاعات الجوية الإسرائيلية والأميركية، مرسّخاً بذلك معادلة جديدة عنوانها تقصفون بيروت فنقصف تل أبيب ونوجعها.
ومن الطبيعي هنا الاعتقاد بأن حزب اللـه وعلى الرغم من الدمار الكبير الذي يلحق بقرى الجنوب والضاحية والبقاع لا يزال يسير ضمن مخطط تدريجي ممسوك ولا يرمي أوراقه جميعها، كما يفعل الإسرائيلي الذي يظهر جلياً أنه يستهدف التدمير الشامل من دون مخطط واضح، فالوقت يمضي وفاتورة الحرب تتضخم والجيش يتعب والأهداف لم ينجز أي منها بعد، بل مازال وعد الشهيد حسن نصر اللـه بأن لا يعود مستوطن إلى الشمال موفىً به، وفوق ذلك توسعت دائرة النزوح مع استمرار القصف اليومي المكثف للمستوطنات والمدن الشمالية، وبات الوصول إلى النهاية أمراً حتمياً، فبدأت حكومة بنيامين نتنياهو بمناقشة حيثيات الاتفاق بعد أيام قليلة من تهديد المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين بالانسحاب من الوساطة بسبب التعنت الإسرائيلي، وبدأ الإعلامان الإسرائيلي والأميركي بتسريب بنود من الاتفاق القريب الذي قيل إنه سيوقع خلال الأسبوع الجاري، حاملاً الآمال الإسرائيلية نفسها التي ظهرت في اتفاق وقف إطلاق النار عام 2006 وهي إعادة حزب اللـه إلى ما وراء الليطاني ونشر الجيش واليونيفيل في الجنوب والرقابة الدولية على تنفيذ الاتفاق وحرمان حزب اللـه من إعادة تسليح نفسه، وبالمقابل يجري الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية خلال 60 يوماً، فيما لا تزال بعض الأمور عالقة والتي تتعلق غالباً ببند حرية الحركة الإسرائيلية في المنطقة الأمر الذي لا يمكن أن يرضخ له الحزب، ومن الطبيعي القول إن إسرائيل هي من ستتراجع عن شكله الفج في نهاية المطاف، فالفرق كبير بين من يدافع عن أرضه التي لا يملك سواها بعد أن دُمر منزله، وبين من لديه الكثير ليخسره في حال بقي مصمماً على الاعتداء، وفي حال خرق أي اتفاق فإن عودة أنباء الجنوب لحمل السلاح ضد العدو لن تكون أمراً صعباً.
الاتفاق في حال التوقيع عليه سيضمن وقف الحرب ويسمح بعودة النازحين إلى جنوب لبنان حسب التسريبات الإسرائيلية، فيما ستضمن نتائجه انطلاق مرحلة إعادة الإعمار بشكل مباشر كما تعهد الأمين العام لحزب اللـه نعيم قاسم في خطابه الأخير، والسعي لرأب الصدع في الداخل اللبناني عبر التوجه لانتخاب رئيس جمهورية ومحاولة النهوض بلبنان من مستنقع التردي الاقتصادي، كما سيسمح بعودة المستوطنين النازحين من المستوطنات الشمالية بعد عام من فرارهم منها وبطريق لم تكفله حكومتهم بل بالاتفاق الذي أجّلته وفرّطت فيه لأشهر طويلة حتى جعلت إسرائيل منبوذة من العالم وجعلت من رئيس حكومتها ووزير حربه مجرمان يجب القبض عليهما بقرار صادر عن المحكمة الجنائية الدولية، فيما كان بالإمكان الاستغناء عن هذا الخراب كله وعقد صفقة تبادل أسرى مع حماس وإنهاء المشكلة من دون التورط أكثر في أحلام تغيير شكل المنطقة للأبد وإنهاء المقاومة بشكل دائم، وهي لا تزال رغم الجوع والسيطرة الإسرائيلية على كل شيء ورغم فقدان جميع القادة تضرب يومياً قوات الاحتلال في جباليا وبيت لاهيا وغيرها وتواصل أسر عشرات الإسرائيليين ولم تلق السلاح بعد، والغالب أنها لن تتفكك كما توقع الإسرائيلي ولن تلقي سلاحها أبداً.
تصريحات وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير التي قال فيها: إن «الاتفاق مع لبنان خطأ كبير وتفويت فرصة تاريخية لاجتثاث حزب الله»، لم يلقَ آذانا صاغية على ما يبدو داخل المجلس الوزاري المصغر، وهذا يعني أن الأمر لم يعد متاحاً للمناورة بل الواضح أنه بات لزاماً وقف هذه الحرب في محاولة لوقف النزيف، خاصة وأن الالتهاء بالحرب لم يعد يحمي نتنياهو من المحاكمة الداخلية، حيث «أعلنت النيابة العامة في الكيان رفض طلب رئيس الحكومة تأجيل الإدلاء بشهادته أسبوعين إضافيين في قضايا الفساد التي يُحَاكم فيها»، وكذلك فإن موافقة الطرف اللبناني على ما نصت عليه مسودة القرار بعد تحقيق رغبته بإشراك فرنسا في اللجنة المختصة بمراقبة تنفيذ قرار وقف الحرب، يضع إسرائيل في موقف محرج يجعل أي تخريب للاتفاق في شكله النهائي أمراً عائداً لها، فبدأت باستغلال الساعات الأخيرة قبل التوقيع بتدمير أكبر قدر ممكن من القرى والأبنية اللبنانية.
أما في حال التراجع عن الخطوة الأخيرة من قبل إسرائيل واستمرارها في الحرب فإن ذلك يعني من دون شك انتقال حزب اللـه لمرحلة جديدة من التصعيد ضد الكيان وجيشه الذي سيحاول التوغل بكل قوته في العمق اللبناني وسيشهد أياماً شبيهة بيوم وادي الحجير والبياضة في كل بلدة يحاول اجتياحها، كما ستشهد تل أبيب أياماً نارية مشابهة لما حدث منذ يومين على اعتبار أن بيروت ستصبح هدفاً رئيسياً لجيش الاحتلال في المرحلة القادمة من الحرب.