قضايا وآراء

محكمة الجنايات الدولية وأعضاؤها أمام اختبار حقيقي

| محمد نادر العمري

شكل إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتَي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت، سابقة هي الأولى من نوعها، في محاولة لتقييد هذا الكيان واخضاعه لمبادئ الشرعية الدولية، ما دفع نتنياهو لوصف هذا اليوم بـ«اليوم الأسود»، ليس فقط داخل هذا الكيان اللقيط والمصطنع، بل في تاريخ شعوب العالم وفقاً لوصفه، فما تداعيات هذا القرار، وكيف ستنعكس على صورة الكيان داخلياً ودولياً؟

لم يكن يوم الخميس السابق بالنسبة إلى الكيان الصهيوني وقياداته ومؤسساته الأمنية والعسكرية والسياسية والإعلامية، كسائر الأيام التي اعتاد عليها هذا الكيان، من أن تكون يده فوق مبادئ القانون الدولي وأسسه ومنظماته منذ تكريسه في المنطقة في عام 1948 بقرار دولي اتخذ من داخل إحدى هذه المؤسسات، ما يعد سابقة في تاريخ النظام السياسي الحديث.

إذاً، أضحى الخميس الماضي، تاريخاً مشؤوماً بالنسبة إلى الكيان وقادته، فقرار المحكمة الجنائية، أرجعه نص بيانها «لأسباب منطقية»، من حيث اتهام كل من نتنياهو وغالانت بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، أدت لاستشهاد ما يزيد على ٤٤ ألف شخص وإصابة أكثر من 104 آلاف آخرين، وأكدت المحكمة أن جرائم الحرب المنسوبة إليهما تشمل استخدام التجويع سلاح حرب، كما تشمل جرائم ضد الإنسانية، والمتمثلة بالقتل والاضطهاد وغيرهما من الأفعال غير الإنسانية.

هذا القرار يجعل الكيان ومؤسساته ومسؤوليه، أمام جملة من التداعيات السلبية على مختلف الأصعدة، وهي ربما لم تكن في حسابات الكيان بهذا التوقيت السياسي؛ ويمكن سردها على الشكل الآتي:

– أولاً من الناحية الإلزامية القانونية للتنفيذ والتطبيق؛ الكيان الإسرائيلي ليس عضواً في نظام روما المؤسس للمحكمة، والذي دخل حيز التنفيذ في عام 2002، ويرفض التعاون معها، ويرفض حتى أساس الدعوى التي رفعت ضده من جنوب أفريقيا، وهو ما يجعل القرار ينصب في مسارين: المسار الأول لن يكون له أي أثر داخل الكيان، ولا صيغة ملزمة لحكومته لتسليم المتهمين للمحكمة لأنها ليست عضوة فيها، أما المسار الثاني؛ فيتعلق بالدول الموقعة على المعاهدة، وهذه ملزمة بتطبيق الحكم الصادر على المتهمين في حال الزيارة أو استخدام أجوائها أو مجالها البري أو البحري للتنقل، لكنها خاضعة للعلاقة مع تل أبيب والولايات المتحدة الأميركية، بمعنى آخر، المحكمة مضطرة للاعتماد على تعاون ١٢٣ دولة موقعة على ميثاق المحكمة لتوقيف المتهمين، لأنها عاجزة عن ذلك بشكل مباشر لأنها لا تملك قوة تنفيذية خاصة بها لإلقاء القبض عليهما، وهو سيجعل للضغوط الأميركية التي ستمارس على هذه الدول لعدم تطبيق قرار المحكمة أو تجميده أو ممارسة الضغوط فيما بعد للتراجع عن هذا الحكم، دوراً بارزاً خلال المرحلة القادمة.

– ثانياً يمثل القرار صفعة مؤلمة وموجعة لما يسمى «دولة إسرائيل» من الناحية السياسية على مختلف الأصعدة، لأنه يوجه اتهاماً لأبرز شخصية ومكانة في نظامه السياسي، ما يعني اتهاماً لكل إسرائيل بمؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، المعارضة والموالاة، اليسار واليمين… إلخ.

إن اتهام نتنياهو سيجعل الدول الإقليمية، التي دخلت مسار التطبيع أو التي تنتظر ذلك، غير مرتاحة وربما تتراجع عن قرارها في حال بقاء نتنياهو في السلطة، لأن ذلك يعني مشاركة هذه الدول وقبولها العلني بجرائم نتنياهو، ما سيؤثر في علاقتها بشعوبها. أما الصعيد الثالث؛ فهو الصعيد الدولي الذي يتمثل في لي ذراع واشنطن، لأول مرة، من المنظمات الدولية وعدم خضوعها للضغوط والإملاءات التي تفرضها الولايات المتحدة لحماية هذا الكيان، والتي كان آخرها تلويح إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، في منتصف نيسان الماضي، بفرض عقوبات شديدة على المحكمة في حال اتخاذها لهذا القرار، والتي ستترجم على ما يبدو في اليوم الأول لتسلم المرشح الجمهوري الفائز بالانتخابات دونالد ترامب مقاليد الحكم، وفقاً لما توعد به مستشاره للأمن القومي مايكل والتز عندما قال: «توقعوا رداً قوياً في كانون الأول المقبل على تحيز الجنائية الدولية المعادي للسامية». وهذا بعد توجيه حملة اتهامات للمدعي العام الأساسي للمحكمة كريم خان بالتحرش الجنسي للانتقام منه.

في السياق ذاته؛ من أبرز تداعيات هذا القرار السياسية ستتمثل في إجبار الكثير من الدول الغربية، ولاسيما الأوروبية منها، لمنع تصدير الأسلحة لهذا الكيان وربما تصل ببعض الدول لوقف التعامل التجاري معه، ما يوسع دائرة العزلة الدولية عليه، ولا سيما بعد مسارعة العديد من الدول الأوروبية ومنظمات حقوقية دولية للترحيب بصدور القرار والدعوة لتطبيقه، في مقدمتهم وزراء خارجية هولندا كاسبر فيلد كامب وإيرلندا مايكل مارتن والسويد ماريا جارد والنرويج إسبن أيدي والإيطالي أنطونيو تاياني ونائبة رئيس الوزراء البلجيكي بيترا دي سوتر، إلى جانب منظمة «هيومن رايتس ووتش»، التي أكدت في بيانها أن: «مذكرات الاعتقال فندت التصور بوجود أشخاص فوق القانون»، ولعل ذلك ما دفع نتنياهو لوصف هذا القرار، في مؤتمر صحفي بأنه «مخز ومعاد للسامية» معلناً إلى أنه قام بدور المنقذ للكيان والعالم، بينما وصفه غالانت بأنه: «يشكل سابقة خطيرة، ويشجع الإرهاب القاتل»، وفقاً لزعمه.

– ثالثاً من الناحية الإعلامية، بعد صدور هذا القرار، بالتأكيد غدت صورة ومكانة وتأثير هذا الكيان على المحك، ولاسيما أمام الرأي العام الداخلي الذي فشل نتنياهو، على الرغم من مرور ما يقارب من عام وشهرين على بدء العدوان على غزة وتوسيع دائرة النار باتجاه لبنان، من استمرار توحيد الشارع الاستيطاني والسياسي الإسرائيلي، ولعل صدور هذه المذكرات تزامنت مع فشل تحقيق أهداف العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، وتزامنت أيضاً مع قضية تسريب المعلومات من مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلي، وهذا ما قد يزيد من غضب المستوطنين الذين أصبحوا في موقف الدفاع عن أنفسهم أمام دول العالم، عن جدوى كل هذه الاعتداءات، فضلاً عن اتساع مخاوف القادة السياسيين والعسكريين الصهاينة الحاليين والسابقين من تعرضهم لمحاكمات مشابهة خلال المرحلة المقبلة، وهذه المخاوف التي باتت تعتري هؤلاء عكستها صحيفة «هآرتس» بقولها: «المحكمة الدولية أصدرت مذكرة اعتقال بحق أقوى شخصية حليفة لواشنطن؛ فما يمنعها من إصدار المزيد من المذكرات».

أما على المستويين الإقليمي والدولي؛ فهذه المذكرات ستجعل صورة ومكانة إسرائيل أكثر تراجعاً وخاصة لدى شعوب المنطقة التي سعت تل أبيب إلى إقناعهم، خلال العقود السابقة، بجدوى «السلام المذل»، كما أن صدور هذا القرار سيدفع المزيد من الدول لدعم قضية جنوب إفريقيا، ويشجع الكثير من المنظمات الحقوقية لتحريك قضايا وملفات ضد الكيان ومسؤوليه، وربما سيكون القرار بمثابة الفتيل الذي يشعل الشارع الأوروبي والأميركي مجددا بعد تبيان مدى الإرهاب والتطرف الذي يمارسه الكيان وقادته.

صحيح أن هذا القرار الصادر عن محكمة الجنايات الدولية هو قرار نوعي وسابقة في تاريخ الصراع ضد إسرائيل، إلا أن هناك مجموعة من المؤشرات التي تؤكد أنه لن يتعدى الإطار الشكلي بسبب الدور والضغوط الأميركية المحتملة لعدم قيام الدول بتطبيقه، وإن أعلنت عكس ذلك حفاظاً لمياه وجهها أمام رأيها العام، أو لاستمرار صراعها مع روسيا في أوكرانيا، إلا أن حجم التصريحات الصهيونية المنزعجة من صدور مثل هذا القرار تعكس أن الكيان لم يعد فوق القانون، وما تمكنت المقاومتين الفلسطينية واللبنانية من إنجازه، سواء في التصدي للمشروع الصهيوني عسكرياً أم من خلال تفنيد ادعاءاته ومزاعمه الإعلامية، أجبرت الفواعل الدولية لتضييق الخناق وتشديد العزلة على هذا الكيان، دون إغفال احتمال توظيف هذا القرار من نتنياهو لتصعيد عدوانه تجاه غزة والضفة الغربية، أو حتى تجاه المنطقة بما في ذلك عرقلة اتفاق وقف إطلاق النار المتوقع حصوله مع لبنان.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن