«القدود الحلبية» من الفنون الموسيقية الشرقية التي اشتهرت بها … حلب أهدت التراث الثقافي اللامادي هوية عالمية لسورية وحضارتها
| مايا سلامي
في حلب جوهرة الشمال السوري لكل شيء روح خاصة ونكهة مميزة لا تجد مثيلاً لها في أي مدينة أو بلد آخر، فجذورها التاريخية الضاربة في القدم جعلت منها مركز إشعاع حضاري وثقافي وفكري غزت من خلاله العالم بآثارها وفنها وموسيقاها الخاصة.
فلا تكاد يوماً تسمع اسم حلب دون أن يقترن بالطرب والأصالة و«القدود الحلبية» التي حافظ عليها أبناء هذه المدينة منذ مئات السنين وحرصوا على إبقائها خالدة من خلال مجموعة موشحات وأغنيات رددها الكبير والصغير، ما دفع بمنظمة اليونسكو عام 2021 إدراج هذا الفن ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي، ليبقى هوية عالمية لسورية وشهبائها.
نشأة القدود الحلبية
القدود الحلبية من الفنون الموسيقية الشرقية الأصيلة التي اشتهرت بها مدينة حلب، وأنشئت على أعاريض وألحان دينية أو مدنية، بمعنى أنها بنيت على قد أي على قدر أغنية شائعة لتحقق شهرة وانتشاراً ومن هنا جاء اسم «القد».
وعرفت القدود منذ زمن القس السرياني مار أفرام سنة 306 ميلادي الذي دعا الناس وعمل على ترغيبهم للحضور إلى الكنيسة وأدرج الألحان الدينية التي يألفها الناس في طقوس يوم الأحد ومن ضمنها كان انطلاقة القدود، وكما هو معروف «قدود القس مار أفرام» في الكنيسة السريانية هي أقدم القدود في حلب.
أما مصادر نشأة القدود فهي الموشحات الأندلسية والأناشيد الدينية، والموالد والأذكار الإضافة إلى الأغاني والموشحات الأعجمية؛ تركية وفارسية، والأغاني الشعبية والتراثية ذات المستوى الشعري المتدني، كما أنه من الصعب معرفة الوقت الحقيقي لنشوء هذا اللون ولكنه يرجح أنه ظهر في منتصف القرن 18.
والقد ليس قالباً موسيقياً بحد ذاته، لكنه يأخذ شكل القالب الأساس الذي نشأ منه، فإن كان بالأصل موشحاً بقي كذلك، وإن كان «طقطوقة» أو أغنية بقي كذلك أيضاً، ولذلك اشتهرت القدود بأسماء مؤلفيها وليس بأسماء ملحنيها، المجهولين على الأغلب، فالذين ألفوا القدود هم شعراء لكنهم يمتلكون ذائقة موسيقية جيدة ومنهم من كان موسيقياً أيضاً.
ارتباطها بحلب
ارتبطت القدود بمدينة حلب دون غيرها لسببين: الأول احتضان حلب للعديد من الفنون الموسيقية الوافدة إليها بسبب موقعها التجاري والفني المهم، ومن تلك الفنون قدود الشيخ أمين الجندي الذي جاء إلى حلب برفقة إبراهيم باشا عندما زحف إلى سورية عام 1831، وجعل من حلب قاعدة لعملياته العسكرية، وقد كان الجندي من المقربين إليه وجعله من خاصة مستشاريه. وخلال إقامة الجندي في حلب واحتكاكه بأهل الأدب والفن تم التعرف إلى قدوده وانتشارها من هناك في حين اقتصر غناء قدوده في حمص على الجلسات والسهرات البيتية والنزهات على ضفاف العاصي.
أما الثاني هو انتشار الإذاعة، ما ساعد على توثيق وتسجيل العديد من تلك القدود ضمن وصلات الغناء التراثية التي سجلتها وبثتها الإذاعة وتعرف عليها المستمع بأصوات عدد من المطربين الحلبيين الكبار والذين اشتهروا بغناء هذا اللون أمثال: صباح فخري، محمد خيري، عبد القادر حجار.
وخلال القرون الخمسة الماضية، كان هذا الفن يتطور في حلب ويتفاعل مع عناصر البيئة المحلية، وأصبح للموشح الحلبي صورته الفنية المستقلة بالإيقاع والضرب والأداء والكلمة.
وتجاوزت ضروب الموشح الحلبي بفروعها وتفاصيلها المئة، وأصبحت لها قواعدها وأسسها وتقاليدها وبلغ هذا التطور ذروته في القرن الماضي نصاً ولحناً وغناء، ولا يمكن الفصل بين الموشح والألوان الغنائية الأخرى، فكلّها قد نضجت وتطورت في مدينة حلب، ومنها «القصيدة- الموّال- الأناشيد الدينية- الأغنية الشعبية- النوبة الأندلسية.. الخ»، حسب بحث لموقع «ساقية».
وكان للزوايا والتكايا الصوفية، التي عرفت حلقات الذكر والأناشيد الدينية، دور كبير في تطوير فن الغناء في مدينة حلب، ولا تزال «الزاوية الهلالية» التي يرأسها اليوم الشيخ جمال الدين الهلالي مستمرة في عطائها الصوفي والفني منذ أربعة قرون، وقد تخرج منها عدد كبير من أعلام الإنشاد والموسيقى من أمثال مصطفى بشنك في القرن الثامن عشر، ومحمد عقيل وأحمد رحال، وصبحي الحريري، وعبد اللطيف تنكجي، وفؤاد خانطوماني، وصولاً إلى المرحلة المعاصرة مع كبير المنشدين مسعود خياطة.
أبرز روادها
من الأصوات التي برعت في أداء القدود وأصبحت أيقونات في عالم الفن، الفنان صبري مدلل والمطرب صباح فخري والمنشد حسن حفار إضافة إلى أديب الدايخ الذي كان صوته لا يفارق بيوت سورية.
ولد الفنان صبري المدلل في حلب عام 1918 من عائلة ملتزمة، وكان أبوه يصطحبه معه إلى المساجد وحلقات العلم، فاكتشف شيخه صوته الرخيم في تلاوة القرآن وسمح له الصعود للمئذنة وإطلاق أذان الظهر كل يوم، تتلمذ المدلل فنيًّا بمدرسة الشيخ عمر البطش الذي اشتهر بألحانه وموشحاته، وتعلّم منه أصول الغناء والتقاسيم، وعلوم الأوزان والمقامات وصار يأخذه معه إلى الحفلات الغنائية، للمشاركة بها، حتى صار المدلل يمسك الحفلات ويقودها.
أما صباح فخري فهو صباح الدين أبو قوس ولد في مدينة حلب عام 1933 في أسرة ملتزمة وأبوه قارئ للقرآن ومنشد وكان فخري في صغره مؤذناً في جامع الروضة في حلب، واكتسب لقبه الفني من الزعيم السوري فخري البارودي الذي دعاه للبقاء في سورية وعدم السفر منها. درس صباح في أكاديمية الموسيقا العربية في حلب وانتقل إلى فرع الأكاديمية في دمشق، وتخرج في المعهد الموسيقي الشرقي عام 1948، ليكون قد أتمّ دراسة الموشحات والإيقاعات والعزف على العود. تتلمذ فخري على يد الشيخ عمر البطش، إضافة إلى الشيخ علي درويش، ومحمد رجب وعزيز غنام، وكانت أول عروضه المهمة في القصر الرئاسي السوري في عهد الرئيس شكري القوتلي، حاز صباح شهرةٍ واسعة في العالم العربي، غنى فخري العديد من أغاني حلب التقليدية، والمأخوذة كلماتها من قصائد لشعراء قدماء.
وولد المنشد حسن حفار عام 1943 وتتلمذ في المساجد وأصبح مؤذناً في الجامع الكبير في مدينته، ودرس أصول الإنشاد والتجويد ومقامات الموسيقى العربية الكلاسيكية، إضافة إلى إلمامه بالتراث الغنائي الحلبي من قدود وموشحات وقصائد، فأسّس فرقته الخاصة من منشدين وصار يحيي الأمسيات في حلب، كما أنه احترف الطرب عند عبد القادر الحجار وبكري الكردي، وعمل أيضاً مع صبري المدلل وعبد الرؤوف الحلاق، وأجرى العديد من الحفلات خارج سورية في فرنسا وتونس والمغرب ودول الخليج العربي.
أديب الدايخ ولد في حلب عام 1938 وتعلم من أبيه أصول الكلام والحفظ والقراءات السبع للقرآن الكريم إضافة إلى المراتب والتلاوة، إذ إن أبواه هو المقرئ محمد الدايخ الذي اكتشف صوت ابنه فدفعه لحفظ القصائد العربية القديمة التي تتناسب مع موهبته. حفظ الدايخ ما يقرب من 10 آلاف بيت من الشعر، من العصر الجاهلي والأموي والعباسي، وحتى بعض الشعراء المعاصرين، والتزم في غناء القصيدة ذات المعاني السامية.
أشهر أغاني القدود
أدت بعض تلك القدود دوراً مهماً في توثيق قصص ومراحل تاريخية مهمة، وتعتبر أغنية «الروزانا» من أشهرها وتختلف الروايات حولها، لكن أغلبها تدور حول قصة سفينة تدعى «روزانا».
وتقول القصة الأولى إن «روزانا» سفينة عثمانية محملة عنباً وتفاحاً، وجيء بها إلى بيروت لتبيع كل إنتاجها، بدل إنتاج المزارعين اللبنانيين، وهو ما حصل، فكسد الإنتاج اللبناني، ليأتي تجّار حلب ويتضامنوا مع اللبنانيين ويشتروا كل محصولهم، وينقذوهم من الفقر والعوز.
أما الرواية الثانية فتقول إن السفينة التي تدعى «روزانا» هي سفينة إيطالية وأرسلتها إيطاليا إلى لبنان وسورية وقت المجاعة الكبرى عام 1914، محملة بالقمح، لكن عندما وصلت تبيّن أنها محملة عنباً وتفاحاً ما أصاب اللبنانيين والسوريين بالخيبة، ورغم ذلك قام أهالي حلب بتأمين القمح اللازم للبنانيين، لإنقاذهم من المجاعة.
وتقول الأغنية: «يا رايحين عَ حلب.. حبّي معاكم راح/ يا محملين العنب تحت العنب تفاح/ كل مين وليفُه معو وأنا وليفي راح/ يا ربي نسمة هوى ترد الوِلف ليّ/ عَ الروزانا عَ الروزانا كل الهنا فيها/ شو عملت الروزانا الله يجازيها».