ثقافة وفن

المعيار والمسؤوليّة

| غسان كامل ونّوس

من المهمّ، حين القول بأمر، أو الكلام فيه أو عنه، أن يكون ذلك منطلِقاً من أسس ومبادئ تصحّ للقياس، وليس ارتجالاً أو تدخّلاً مجّانيّاً أو ثرثرة؛ كما من المهمّ، لدى إطلاق الأحكام، أو القيام بأي تقويمات، في أي منحى، أن يكون ذلك بناء على معايير تتّفق الأغلبية عليها، أو على أغلبيتها.
ومن الشائع أن تتغلّب العاطفة على العقل، أو تؤثّر فيه بفعاليّة، في حال القيام بشهادة، أو اتّخاذ موقف؛ وهذا ما يشوّه صوابيّة الرأي، ويصيبه بما يفسد اتّخاذه دليل إثبات، أو مستنَداً صالحاً للاستناد.
وقد بات من الشائع أكثر، أن تكون المصلحة وراء ذلك؛ هذه المصلحة التي تُعمي الرائي عن تبصّر الحقّ، وتصمّ المشنّف عن سماع النشاز في النغمة والإيقاع، وتسدل الغشاوة أمام نور العقل، الذي يعجز عن اختراقها، أو يتكاسل، أو ينأى بنفسه عنها!! تاركاً الساحة حكراً على المنافقين آكلي أكتاف الأحياء وأكبادهم…
ولا يتوقّف الأمر على معيار يستباح، وقانون ينتهك؛ بل يُبالغ أحياناً في القول بهذا المعيار، والحرص على ذلك القانون؛ فيطبّقان في أحياز مختارة، وبما هو أصغر، وما يمكن أن يكون ثانويّاً وغير مهمّ؛ برهاناً على الصدقيّة والموضوعيّة لدى المطبّقين؛ واعتماداً على المصداقيّة والموثوقيّة، اللتين يمثلهما ذاك المعيار وهذا القانون!
في الوقت الذي يُتَّخذ في أحياز أخرى، ولمسائل مشابهة، موقف مختلف، وكلام مغاير، بتسويغات غير مُقْنِعة، وأدلّة مشكوك في صلاحيّتها. وليس الكلام عن الإرهاب في العراق وفلسطين، و«الثورة» و«المعارضة المعتدلة» في سوريّة، سوى مثالين راهنين فاقعين على هذه الازدواجيّة، ومن أقوى الدول، وأشدّها تأثيراً في الوقائع، وقدرةً على التحكّم بالمسارات. وفي الإطار عينه، وبعيداً عن ساحات الحروب، وليس انبتاتاً عنها؛ فإن لوماً يقع على أحد ما، من أجل تقصير بسيط، وحساباً عسيراً قد يناله مرتكب هفوة؛ بينما يُتغافل عن خطلٍ لدى آخر، وجرم مشهود في مكان آخر.
الأمر ذاته قد يقع، حين يُعدّ التقصير عن الوصول إلى القمّة، أو الحصول على الدرجات التامّة في اختبارٍ، كارثةً أو سقوطاً لدى بعض المتسابقين؛ بينما يُحتفل بصخبٍ لتخطّي متسابقين آخرين عتبةَ النجاح الدنيا! صحيح أن هذا يتعلّق، من حيث القيمة، بالشخص ومستواه، وتأثير الإنجاز فيه وفي الآخرين، ولكن الإصرار على الانفعال بمبالغات سهلة الترويج في الحالة الثانية، وتَصوُّر الأولى انكساراً وتقصيراً وعجزاً وإهمالاً، قد يجعل المنعكس كارثيّاً، وقد يشكل إحباطاً، يحدّ من قدرة المرء على المحاولة من جديد ومن معنى الإنجاز؛ بينما يزهو الناجح بـ«مساعدةٍ»، ويُقبِل على العمل باندفاع وبمساعدةٍ أيضاً، ليسود، ويهيمن، ويقود الأمور والعمليّات في الصعد المختلفة كافّة…
تلك بعض مظاهر الخلل التي نلحظها، ويكتوي بتبعاتها كثيرون في هذا العالم، الذي يشهد إنجازات غير مسبوقة، واكتشافات مذهلة، في مجالات عديدة؛ لكنّه يعجز عن تعميم المصداقيّة، وإشاعة أجواء الثقة، وتجذير المعاني الإنسانية، التي يتغنّى بها، ويملأ الدنيا ضجيجاً وادّعاء بحرصه عليها، والدفاع عن حقوق الإنسان؛ بل حتّى الحيوان، والدعوة إلى الرفق به؛ بينما يُتعامل مع الإنسان بما لا يمكن تصوّره أو احتماله من تشويه وتحقير وتشنيع! وليس هذا ضعفاً، أو عجزاً، أو نقصاً في الوسائل والأدوات؛ إنّما، على العكس من ذلك ربّما، بسبب القوّة المفرطة، والتبجّح بها، أو توهّمها، واستخدامها لـ««تأديب» الآخرين الذين هم تحت «السن» القانونيّة، التي يحدّدها أصحاب القوّة العظمى؛ فلا يحقّ لأولئك الآخرين امتلاك ما يمتلكون هم من سلاح نوويّ، أو كيميائيّ، أو تدميريّ شامل؛ بل لا يحق لهم استخدام ما هو أقلّ من ذلك بكثير، حتّى للدفاع عن النفس، ولا يحقّ لأولئك «الأغرار» أن يكون لهم استقلاليّة أو قرار مستقلّ، ولا أن يديروا شؤون بلادهم بأنفسهم، أو وفق إرادتهم؛ بل عليهم أن ينصاعوا لمشيئة القوى الأكبر، ويحقّقوا توصياتها أو رغباتها/أوامرها… وإلّا فالقانون الدوليّ، المسيّر بميزان هذه القوى، سينال منهم، بأسلحتها، وبحرائقها، التي تصيب البشر، والموارد، والأرصدة وأسباب العلم والحياة، وقد تبيد كلّ شيء، ولا تترك سوى الفتاوى والدعاوى والابتهالات! ولا يستدعي ذلك صوتاً مستنكِراً، ولا يُقبَل أي ردّ فعل مقاوم من أي مستوى، وإن كان عفويّاً، ولا حتّى اختلاجة مختلفة، أو تنهيدة متجبّرة، أو نظرة تحدّ!
لكن؛ هل هذه هي القوّة حقّاً؟! هل هذا ما يجب أن تتعرّفه الأجيال القادمة، وما تبقّى من الأجيال الحاليّة؟! هل هذه هي خلاصة الفكر المتقدّم، ونتيجة العلم المتخصّص، وزبدة التحليل المتميّز، وجوهر المحاكمة العقليّة التي يصعب تجاوزها، مع كلّ هذه الوقائع والمشاهد والصور والكوارث والخسائر، التي هي من صنع سيّد الكائنات، الأكثر اعتداداً بعقله، وقدرته على تمييز الحقّ من الباطل، والحقيقيّ من المزيّف، والإنسانيّ من الوحشيّ؟!
أسئلة لا نعدم الإجابة عنها، لكننا نعجز عن ترجمة ذلك نتائجَ على الأرض؛ لا لأنّنا لا نريد أو لا نقدر؛ بل لأن ولاة المصائر الأرضيّة لا يريدون، ولا يرضون. ولا يُقنعون بهذا أنهم الأعلون، ولا يمكنهم متابعة ذلك، إلا إلى حين؛ لأن هناك من لا يرضى، ولا يقبل أن يبقى ضعيفاً تحت السيطرة؛ ولأنّ المنطق العقليّ الإنسانيّ يناقض ذلك، ومعيار العدل لا يرتضيه! والكفاح في سبيل هذا المنطق وذاك المعيار واجب على كلّ صاحب فكر ورؤيا وإحساس، وإعلاء راية الحقّ مسؤوليّة، لا تنقضي بالتقادم، ولا بامتداد الحريق، وتضاعف الخسران والنكران!
وإنّ غداً لِناظره قريب…

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن