ثقافة وفن

«الأجوبة المسكتة» بلاغةً وإفحاماً … إن الكريم إذا حاسب غريمه تفضّل عليه

| إسماعيل مروة

الأجوبة المسكتة مبحث لغوي قديم في لغتنا، وكثيراً ما يردد المتخصصون مثل هذه الأجوبة الدالة على الذكاء والدهاء وحضور البديهة عند صانعها الأول، وعند مستعملها الذي رأى استحضارها بعد كل القرون التي مرت عليها، وهذه الأجوبة تحمل عدة احتمالات منها الإقناع والإمتاع، وهما احتمالان رجحتهما الدكتورة منيرة فاعور في كتابها وعلى غلافها، ومنها الإسكات والإفحام للخصم الذي تخاطبه، ولمن تجاوز الحد في أمر ما، فقمت بدور صعب هو إنهاء الحديث معه، وقد أفحمته، وهذا المبحث وإن حمل أكثر من اسم: الأجوبة المفحمة، الأجوبة المسكتة، فإن المؤلفة اختارت ما هو أقرب للناس وأكثر سيرورة (الأجوبة المسكتة) وهو الكتاب الصادر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق.

بين التراث والمعاصرة
إن علمية المؤلفة دفعتها إلى اختيار عنوان علمي، ولم تلجأ إلى تغيير المصطلحات، وعندما رأيت الكتاب أول مرة ظننته تحقيقاً لنص عن الأجوبة المسكتة، وهذا الفن لقي اهتماماً بالغاً في تراثنا، ثم ظننت أنه جمع للأجوبة المسكتة، خاصة أن أغلبها موجود في بطون الكتب، فقد أورد الأبشيهي في المستطرف طائفة، وكذلك فعل الجاحظ، ناهيك عن كتب اللغة والبلاغة، ولكن استعراض الكتاب، ومن ثم قراءته أظهر أن جهد المؤلفة لم يكن عادياً، فهي لم تحقق نصاً، ولم تجمع وحسب، وإنما قامت بعملية عسيرة، هي جمع هذه الأبواب، ومن ثم دراستها وتبويبها، والأكثر أهمية هو توظيف هذه الأجوبة المسكتة في حقل البلاغة والبيان، وهي الأستاذة المتخصصة في هذا الباب. وما يحمد هو الجهد الذي قدمته الدكتورة منيرة في هضم التراث، ومن ثم تقديمه بصورة مفهومة عصرية، وبذلك أصّلت للأجوبة المسكتة لغة وبلاغة، ولم تقصر دورها على البراعة اللغوية والطرافة المعنوية، فتحولت هذه الأجوبة إلى شاهد بلاغي ومتن لغوي.

دراسة وتصنيف وتحليل
جاء الكتاب في قسمين الأول كان نظرياً، فعرف الجواب المسكت، ورصد رحلته في كتب التراث، سواء كان ضمن كتب، أو في كتب مستقلة، وحددت الدكتورة خصائص الأجوبة المسكتة التي كانت: السرعة في الرد والارتجال، الإصابة في المعنى، الإيجاز في التعبير، حسن البيان، إفحام السائل وإسكاته، الوضوح، الغياب النسبي للتصوير، السيرورة. وعند كل خصيصة من الخصائص سردت الأمثلة والأجوبة، ثم أنهت الجانب النظري بقيمة الأجوبة المسكتة سياسياً وتاريخياً واجتماعياً وتربوياً ولغوياً وترويحياً.. وبعد هذه الجولة الغنية جاءت إلى حضورها في البلاغة، فتناولت حضورها في علم المعاني وأنواع الاستفهام فيها، ثم جاءت إلى البيان والكنايات والمحسنات المعنوية واللفظية، لتختم بحثها بنماذج من الأجوبة المسكتة محللة بلاغياً.
ومنذ البداية حددت الدكتورة منيرة أسباب تأليف كتاب في الأجوبة المسكتة فقالت: «لأنها تمثل لغة الشعب كله بجميع فئاته وطبقاته، فهم ضروب التفكير والتعبير، قوة إفحامها وإمتاعها وتوظيفها بلاغياً، تسلية القارئ ومؤانسته، توجيه الأنظار إلى غذاء الروح فيها.
والجواب المسكت له تعاريف عدة نستخلصها مما وضعته المؤلفة: قول بليغ مرتجل، خلقته مناسبات خاصة، يرد بها على السائل لإفحامه بالجواب المسكت. ص17
أما غايتها فتتمثل في إقامة الحجة، ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي. ص20
ولم تدّع الكاتبة التفرد، لذلك قدمت قائمة بأسماء الكتب المنفصلة التي خصها مؤلفوها للأجوبة المسكتة، وقائمة بالكتب التي حوت فصولاً منثورة منها.
ومن أمثلة الأجوبة المسكتة وتطبيقها بلاغياً:
1- الاستفهام بمعنى التحقير: «تكلم رجل عند معاوية فهذر، فلما أطال قال: أأسكت يا أمير المؤمنين؟ قال: وهل تكلمت؟».
2- الاستفهام بمعنى التعجب: «قيل لمديني ما يمنعك من الغزو؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أمضي إليه ركضاً؟».
3- الطباق: «قيل لرجل: لم اخترت من هؤلاء الجواري أقبحهن؟ فقال: ليس الهوى نخاساً فيختار أثمنهن؟
4- التعليل: «قيل لزاهد: كيف سنحت نفسك أن تترك الدنيا؟ قال: أيقنت أني أخرج منها كارهاً فأحببت أن أخرج منها طائعاً».
5- السجع: «قيل لزاهد: كيف أصبحت؟ قال: نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا».
«قال الحجاج لأعرابي: أخطيب أنا؟ قال: نعم لولا أنك تكثر الرد، وتشير باليد، وتقول أما بعد».
أخيراً: وقفت عند (الأجوبة المسكتة) وسعدت بما قدمته الدكتورة منيرة فاعور لأهمية هذا النوع من الكلام، ولحاجتنا إليه، فهل يعقل أن يكون أجدادنا بهذه الروح القادرة على الإفحام بالأجوبة المسكتة، ونجد الكثير من الثرثرة في أدبنا شعراً ونثراً وكتابة؟! من الطبيعي أن تتطور ملكة الإجابات والكلام لدينا لتصبح شيئاً مختلفاً متقدماً عما كان في الماضي، فلماذا تراجعنا كل هذا التراجع؟!
المطلوب منا اليوم أن نعود إلى ما يصلح من تراثنا لقراءته والإفادة منه وتطويره وعصرنته، وألا نكتفي من التراث بالموروث الفكري إلا الجيد منه.
وأختم بجواب مسكت: «قيل لأعرابي: أما تخاف الحساب؟ قال: ومن يحاسبني يومئذ؟ قالوا: الله عز وجل، قال: إن الكريم إذا حاسب غريمه تفضل عليه».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن