ثقافة وفن

ثقافة الاختلاف

| د. علي القيّم

ما زلنا، في شتى أرجاء الوطن العربي، نفتقد «ثقافة الاختلاف» التي ثبت أنها الأكثر استجابة موضوعياً للتحديات التي تواجهها بلادنا العربية بعد ما أطلق عليه «الربيع العربي»، لأن هذا المفهوم يضعنا أمام قضية حضارية ومعرفية كبيرة تتعلق بالسؤال التالي: هل يمكننا أن نصف ثقافة معينة بأنها ثقافة اختلاف؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما مقومات هذه الثقافة؟
إن محاولة الإجابة عن هذه الإشكالية، تجعلنا نبحث، عن معنى محدد باعتباره صيغة قادرة على تأسيس مرحلة انتقال نحو سياسة ثقافية جديدة، يوفق فيها بين الحفاظ على الهوية والأصالة من ناحية، وبين تأسيس هذا الفكر على قيم الحداثة والتعددية والحوار والانفتاح على الآخر. لقد اتضح خلال السنوات الماضية أن هناك مشاكل وتحديات أخلاقية وثقافية وسياسية كبيرة لم نعشها في الماضي، والتحدي الجديد يتعلق أساساً بكيفية إنتاج المجتمع نفسه بنفسه، فالمشهد السياسي العربي عموماً طرح علينا مجموعة من الأسئلة المهمة التي يجب الإجابة عنها حتى نعرف كيف تتشكل السياسات في المجتمع العربي، وكيف تنتقل من شخص إلى آخر، وقد ثبت من خلال التجارب والأحداث التي مرت بها شعوب كثيرة أن كل أزمة حادة تشمل النظام الاجتماعي والثقافي تبدو أولاً وقبل كل شيء أزمة اختلاف وتعدد، وأعتقد أن جميع الفاعلين السياسيين والإعلاميين والمثقفين يجب أن يتحملوا مسؤولياتهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي وتخليصه من التشوهات التي لحقت به، ويجب أن تكون «ثقافة الاختلاف» النموذج الأمثل، فالتعددية جعلها الله تعالى قانوناً وسنة لا تبديل لها ولا تحويل، في كل عوالم الخلق، وهذه الثقافة لا يمكن أن تتأسس إلا في مناخ سياسي وثقافي تعددي في طرق التفكير وفي الوعي.
منذ عصر النهضة الأوروبية أصبح مفهوم «ثقافة الاختلاف» عبارة عن «نموذج إرشادي» موجه للسلوك والتفكير وللإنتاج الثقافي وللعمل السياسي، أي عبارة عن منظومة قيمية ناظمة للمشرع المجتمعي الحديث، و«ثقافة الاختلاف» هي نموذج للعقلانية وللتنظيم القانوني ولمفاهيم الحرية والديمقراطية والمساواة والتسامح واحترام حقوق الإنسان وكرامته. هذه الثقافة هي عبارة عن وعي فكري وممارسة اجتماعية خلاقة، ويمكنها أن تكون ركيزة للمجتمع المدني، وأول سمة لها أن تكون متنوعة، لأن التنوع يؤدي إلى إثراء المجتمع، ويقضي على كل أشكال التعصب فيه، ويؤدي أيضاً إلى تغيير العلاقات والسلوكيات السياسية في مؤسسات الدولة والمجتمع، ولذلك يمكن القول بثقة إن هذه الثقافة أداة ضرورية لرفع مستوى مشاركة الناس في الحراك السياسي، باعتبارها عملية يتدرب عليها الفرد طوال حياته، وتمكنه من استنباط القيم، والانخراط في العمل الجماعي لخدمة الشأن العام.
«ثقافة الاختلاف» يمكنها أن تكون «نموذجاً سلوكياً» في بنية ثقافتنا، وفي مستوى ممارساتنا وعلاقاتنا اليومية، وتأخر ميلاد هذه الثقافة أوصلنا إلى ما وصلنا إليه من ترد وأزمات ومشاكل وغياب وعي وقصور ذاتي وتفكك مؤسساتي أوصلنا إلى معارك سجالية وتخوينية وقتالية لم تشهدها العصور البربرية. لقد خلقت مناخاً مجتمعياً مشحوناً بمشاعر الدس واللامبالاة والخوف والتفكك.. نقولها بصراحة.. مختلف الأحزاب والمنظمات الشعبية والنقابية، لم تستطع الوصول إلى تعميق وعي الشعب بثقافة الاختلاف وما زالت النخبوية والفوقية هي السائدة في علاقاتها وأفكارها وثقافتها.. وبرامجها ووسائل إعلامها وتواصلها الاجتماعي تكشف عن مستوى متخلف، ولا تساعد في تكوين ثقافة سياسية متنورة نحن أحوج ما نكون إليها للخروج من أزمتنا الرهيبة.
إن تقاعس أكثر المثقفين والإعلاميين في رفع أصواتهم عالياً بالدعوة إلى الحوار والتسامح و«ثقافة الاختلاف» هو الذي فسح المجال، وترك الساحة فارغة لأصوات دعاة الكراهية والعنف والتطرف والطائفية والمذهبية.. وهذا ما أدى إلى توسيع الهوة، والتقليل من إمكانيات الحوار، على حين المثقف الواعي لرسالته النبيلة، يمكنه أن يساهم مساهمة كبيرة في استقطاب الآخر، والتأثير فيه.. لقد شكلت السنوات الماضية صدمة أليمة للمواطن العربي، فالخطاب الإعلامي المتداول اتجه منذ بداية الأزمة العربية نحو إغراق المجتمع العربي في «ثقافة الإقصاء» والقتل والدمار، وأبعد الناس عن قبول الآخر والحوار والتعددية، وأدخل المجتمع في مشاكل مفتعلة تفوح منها روائح التعفن السياسي والأخلاقي والقيمي، على الرغم من أن ثقافتنا العربية تزخر بقيم المحبة والإخاء والتسامح والحوار، وتحارب مشاعر الحقد والثأر والقتل والعدوان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن