رحل هيكل فانتشروا! … ما تهيأ لهيكل زاد من معرفته فهل استفاد سواه مما تهيأ لهم كما فعل؟!
| إسماعيل مروة
ها هو محمد حسنين هيكل قد ترجل للمرة الأخيرة فانتشروا في الأرض، قولوا فيه ما تشاؤون، وقولوا لأنفسكم ما تشاؤون، وقولوا لنا ما تشاؤون!! الرجل الذي جعل الإعلام مهماً في زماننا، فكان أعمق وأكثر أثراً من كل من عرفنا ومن لم نعرف. الرجل الذي درس الإنكليزية، ومنها إلى الإعلام فكان مراسلاً حربياً من الجبهات في حرب فلسطين، ليتربع على عرش الأهرام، وليصبح نديم عبد الناصر وظله وملازمه، الرجل الذي لم يخرج أحدهم في وجهه ليسكته لأنه ليس أكاديمياً، ولم يدرس الإعلام وإنما اللغة الإنكليزية، الرجل الذي بقي حتى آخر أيامه يحلل ويتكلم ويستخلص الدروس والعبر من التاريخ القديم، والزمن الذي عاشه، والزمن الذي نحن فيه، هو هيكل الذي لم يهدأ يوماً، عندما كان لصيقاً وملازماً للرئيس عبد الناصر، وحتى صار ملغى عند السادات، وحتى صار في كل صقع من الدنيا.
اختلف حوله الكثيرون، هناك من قال: إن ما تهيأ لهيكل هو الذي جعله عظيماً وبهذه المكانة، وما تهيأ له لو تهيأ لسواه لوصل إلى الكثير، ولكن هؤلاء الذين ينطلقون من موقع الحسد ألم يعرفوا أن عدداً كبيراً قربوا في زمانه؟ أولم يروا أن كثيرين عبر الأزمان قربوا من رؤساء لا يقلون عند الناس عن عبد الناصر، ولكنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى عشر ما وصل إليه هيكل! على هؤلاء أن يعترفوا بعبقرية الرجل الذي اقتنص فرصة كانت له ولغيره، لكنه سخرها بشكل عبقري فخرج منها مارداً! على هؤلاء أن يعتبروا بوفاء هيكل الذي عاش بعد رئيسه أكثر من خمسة عقود، وبقي على الزمن وفياً لذاك الرئيس، ولم يسمح لنفسه أن تعلو عليه! على هؤلاء أن يوازنوا بين هيكل وبين من كتب في زمن عبد الناصر (عودة الروح) وكتب بعد وفاته (عودة الوعي) وبين هيكل ومن مجّد الثورة ورئيسها في أثناء وجوده، ومن ثم قام بنهشها عندما رحل زعيمها وتغيرت المعايير! لست ممن يمجدون الأشخاص بوجودهم أو بعد رحيلهم، لكنني أرفض أن يمجد أحدهم شخصاً، وحين يبتعد عنه أو يبعد عن منصبه يبدأ عملية النهش، أو بعد أن يرحل الشخص يكتشف جملة أغلاطه التي كانت مستورة وخافية تحت عباءة المصلحة!
كم نحن اليوم وفي عاصفة الربيع القاتل لهيكل وأمثاله وتلامذته، كم نحن بحاجة لنتعلم أن الأوطان مصالحها فوق مصالح الأشخاص! كم نحن بحاجة خاصة من قدّمته السلطات، وظن نفسه بمكانة هيكل، ثم يكتشف ونكتشف أنه كان مجرد متسول على باب السلطة، لم يقتنع ولم يقنع، ولا يستحق أن يكون مجرد بوّاب، وكان البوق بصفاته السلبية أكبر منه! كم نحن بحاجة لقراءة هيكل وحياته وآرائه، لنعرف ذاك الشخص الذي استثمر حياته ومعارفه وعاش ملكاً على عرش الصحافة العربية، لكننا لم نجده يوماً يبيع رأيه ويجنح به إلى من يدفع له! كم نحن بحاجة إلى هيكل لنتعلم منه أصول الانتقاد وأصول الحب!
كم تغنى به أشخاص، لكنهم عندما لم ينحز إلى آرائهم سفهوا كلامه وما سمعوه!
آخر ما قرأناه لهيكل كان عظيماً وعلمياً، حذرنا من الحرب على سورية، ومن أن الحرب يراد بها سلب سورية لأنها جائزة بموقعها وتاريخها، ودعا السوريين إلى التحاور فيما بينهم، ورفض أي شروط للحوار، وكان أكثر من واضح عندما قال: كيف نتحاور مع العدو الإسرائيلي ولا نتحاور فيما بيننا؟!
هيكل المفكر إعلامياً، القادر في كل لحظة على توليد الجديد، البراغماتي الذي يقدم الحالة كما هي بطزاجتها، لكنه في الوقت نفسه لا يعارض منطلقاته التي آمن بها والتي صنعته.. هيكل الذكي الذي لا يُشق له غبار، قد يكون العربي الوحيد في مصر والعالم العربي الذي وصل أعلى قمة الهرم، ولم يحرق في يوم من الأيام درجات السلّم الذي صعد عليه! قد لا يكون ذلك برأي الكثيرين من باب الوفاء، بل هو من باب الذكاء، لأن الذي يحرق درجات السلّم الذي صعده يحرق نفسه وتاريخه ومصداقيته! ولو فعل هيكل ذلك فمن سيركن إلى كتاباته وأحاديثه عن سنوات الغضب؟ من سيعتني بالانفجار؟
هيكل هو التاريخ الذي استطاع أن يعطي للإعلام نكهة مختلفة، فأعطاه وظيفته التي تليق به، حوّله من إخبار آني ولحظي إلى تحليل ورؤية، ولم يكن لهيكل أن يفعل هذا إلا لأنه عشق الإعلام عشقاً تاماً، فهو لم يدرس الإعلام أكاديمياً، فقد تخرج في اللغة الإنكليزية، لكنه سخر اختصاصه ورؤيته لعشقه الصحفي، فأضاف للصحافة كما أعطته، والدليل على عشق هيكل للصحافة أنه بدأ حياته العملية صحافياً، وليس صحفي طاولة ومكتب، فقد اختار لذاته أن يكون مراسلاً حربياً في فلسطين أثناء حرب فلسطين، ليلمع نجمه فيما بعد، ويصبح لصيقاً بالحدث مهما كان هذا الحدث حاراً وخطراً، ومن ثم استطاع هيكل أن يكرس ذاته وحضوره ونهجه الإعلامي، بل يشكل مدرسة إعلامية عربية وإن كانت هيكلية الولادة والنشأة والخيار، ولم يستطع خصوم محمد حسنين هيكل من أبناء مهنته أن يشوشوا عليه، وإن منحوا مواهب لا تنكر، من أمثال مصطفى وعلي أمين، وفي رواية (سنة أولى حب) يحاول أمين التشويش على هيكل، بل قدما مجموعة من القصص التي تعرّض بالصحافي الانتهازي الذي يريانه في هيكل، وقد حاولا التشكيك بهيكل وسيرورته وخبراته، لكن كل ما قام به خصومه ذهب أدراج الرياح وبقي هيكل القيمة التي لا تنكر، والموهبة المتميزة، والرؤية الإعلامية المتكاملة التي حملها، بينما كان الآخرون مجرد صحافيين يكتبون ما يعنّ لهم من دون أن يرقى أحدهم إلى حدود المهنة، لذلك بقي اسم هيكل أكبر من كل الأسماء التي رافقته وشاركته المرحلة والقرب من عبد الناصر ورجال الثورة، وهو على خلاف غيره، ومن دون فرض من الدولة وعبد الناصر، سعى مالكو الأهرام إليه، فطلبوا منه أن يتولى رئاسة تحرير جريدة الأهرام، أم الصحف العربية التي أسسها السوريون المهاجرون في مصر، فوقع مع المالكين عقد رئاسة التحرير عام 1956 ليباشر عمله رئيساً لتحرير الأهرام من 1957، وكان التوقيع مع بشارة تقلا صاحب الحصة الأكبر في ملكية الأهرام، ولم يكن مفروضاً من الثورة ورجالها.
هيكل الكاتب الصحفي
لم يكن هيكل صحافياً عادياً، بل كان صحافياً كاتباً، فما ملكه من قدرة وبراعة جعلت فكره مؤسساً لمرحلة ما بعد، ولو كان هيكل صحفي سلطة وثورة كما أشاعوا عنه، وكما حاولوا وسمه لانتهى في أيلول مع وفاة عبد الناصر، لكن الرؤية البعيدة جعلته مختلفاً، وكثيرون ممن يرددون اسم هيكل ويتغنون به ويمتدحونه، يقولون إن هيكل بعد اعتزاله جنح لكتابة كتبه، ويحاولون إسباغ الأوصاف السلبية على كتبه، لكن شيخ الصحافة العربية، الكاتب أولاً، والمترجم ثانياً كان قد وضع في حسبانه منذ البداية نهجاً يقوم على الاختلاف، فاستفاد من الصحافة والسياسة ووضع منهجاً محدداً، فكان أن صدر له أول كتاب عام 1958 «العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط» وبهذا الكتاب بدأ سلسلة كتبه التي لم تتوقف إلا بمرضه ورحيله، وعنوان الكتاب وموضوعه يحمل دلالة وعي هيكل، فمنذ البداية أسس لنفسه الكتابة النقدية السياسية التحليلية، وذلك في وقت مبكر جداً من رحلته، قبل أن يكون مستفيداً من علاقاته بزعماء العالم وقيادة مصر، وربما كانت هذه الرؤية هي التي أهلته ليكون أكثر قرباً من عبد الناصر ورجال الثورة، ويحمد لعبد الناصر خياره هذا، فهو لم يختر لقرب وهوى، وإنما انتقى من المئات الذين يحيطون به الرجل الأكثر حضوراً ورؤية وعمقاً، فكان له كما المتنبي لسيف الدولة.. والحق يقضي بأن يقال بأن لهيكل المكانة الأرفع، والدور الأعظم في تعزيز مكانة الثورة وعبد الناصر، ولو لم يكن هيكل موجوداً لكان الأمر مختلفاً للغاية، ودوره الرفيع هذا يؤكد نجاحه، فقد أجاد التوثيق والتنظير في دراساته، كما أجاد التحدث إلى الجماهير المستهدفة في ممارسته لمهنة الصحافة ورئاسة التحرير، ومراكز التوثيق والمتاحف تحتفظ بعدد من أعداد الأهرام التي تظهر براعة هيكل الصحافية، وخاصة في تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، ولو لم يكن هيكل بهذه البراعة لما استطاع أن يؤسس لمراحل لاحقة وعميقة.
هيكل والصحافة الإستراتيجية
الدعوات اليوم تؤكد ضرورة إنشاء مراكز بحث إستراتيجية في كل ميدان، ولست هنا في صدد الدفاع عن هيكل أو الإشادة به، فمثله لا يحتاج لشهادة هنا أو هناك، فقد أمضى حياته وبقي حتى أخريات أيامه حاضر الذهن متوقداً، ومرجعاً في القضايا المهمة، وكلما ادلهمت الخطوب نفتح الشاشات لنجدها تستنجد بهيكل ومعرفته وخبرته، ومن يذكر وينصف، فإن الإعلام هرع إليه في الحرب العراقية الإيرانية كثيراً، وكانت مواقفه متمايزة، وفي الحرب على العراق كان هيكل مرجعية، وفي المرحلة اللاحقة قدّم سلسلة متطاولة من الأحاديث لعلها تجدي، وتلك الأحاديث قرعت الكثير من النواقيس لخطر مقبل داهم ولكن أحداً لم يسمع!! وفي بداية ما عرف بالربيع العربي عاد الإعلام إلى خبرته، ومن يذكر فسيجد أن كل ما توقعه هيكل قد حدث، ابتداء من ركوب الإخوان موجة هذه الحركات، وحذر من أن الأوطان هي المهددة، وعلى الرغم من خلافه مع السلطات المصرية الذي بدأ مع رحيل عبد الناصر، إلا أن هيكل كان هادئاً وموضوعياً، ولم يقف موقف المتشفي من السلطات، بل قدم رؤى متمايزة للغاية لم يخرج عنها مسار الأحداث فيما بعد… وعندما تحاورت مع صديق عزوت ذلك إلى أن هيكل ليس شخصاً مفرداً، فهو لا يجتر ذكرياته ويستغل خبراته، وإنما يعتمد على مراكز أبحاث تابعة له، وهو يستلهم آراءه من دراسات وقراءات، ويصل إلى استنتاجات منطقية بناء على ما يتوافر لديه من معلومات موثقة… وهذا ليس مثلبة عند هيكل، فهو شخص مؤسساتي، وهو أول صحفي في تاريخ الصحافة العربية لا ينظر إلى الصحافة نظرة فردية، ليوسع صلاحياته وهوامشه، ولم يكتف بإصدار دوريات وصحف وكتب، بل عمد قبل ثمانية وأربعين عاماً إلى تأسيس أول مركز للدراسات والبحوث الإستراتيجية، حمل اسم مركز الأهرام، وقد استطاع هيكل من خلال علاقته المميزة بعبد الناصر من أجل التأسيس لصحافة علمية بحثية، فكان مركز الأهرام التابع للمؤسسة العريقة، وليس التابع لهيكل الشخص، هذا المركز الذي ما زال إلى اليوم يحتضن الخبرات العلمية والأكاديمية، ويقدم دراسات معمقة إستراتيجية، وهو الوحيد الذي ينقسم إلى أقسام متخصصة، فدراسات عربية وإفريقية وأميركية وما شابه، وهو المصدر الإعلامي الوحيد الذي خرج من الإعلام ليقدم متخصصاً حقيقياً في الشؤون الإسلامية والإيرانية العربية والمياه العربية، ومختلف التخصصات التي رفد بها الإعلام بقامات كبيرة، وكل هؤلاء لم يكونوا ليخرجوا بهذا التخصص لولا تأسيس هيكل 1968 لمركز الأهرام، ومن ثم تأسيسه لمراكز عدة، وهذه الرؤية الاستراتيجية لهيكل أراد منها أن يعطي الصحافة مكانتها التي تستحقها، وأن يحولها من كلام جرايد إلى دراسات مؤسسة نلمس خطورتها اليوم من خلال ما نسمع ونقرأ من مراكز غربية نفتقدها!!
هيكل وعالم معرفته
يحاول كثيرون انتقاص مهارات هيكل، ويقولون بأن ما تهيأ له لو تهيأ لغيره من الصحفيين لأبدع، وهذا صحيح في جانب، ظالم في جانب آخر، فهو اللصيق بعبد الناصر، أتيح له أن يسمع ويجلس مباشرة مع خروتشوف وايزنهاور وغاندي وتيتو ونهرو وسواهم من عمالقة القطبين، ودول عدم الانحياز من باندونغ وحتى رحيل عبد الناصر، وكان بإمكان أي صحفي آخر أن يستفيد من هذه العلاقات، وأن يركن إلى الهدوء والزاوية التي يبرز من خلالها طاقاته ومعارفه، ولكن هيكل لم يركن إلى ذلك، وإنما شكل عالم معرفته بجهد كبير مستغلاً كل فرصة أتيحت له، فها هو يحضر عام 1955 مؤتمراً للأقطاب، ويعقد علاقات مع العالم الإعلامي، ويحضر ندوات ويقدم ندوات في جامعات أميركية عام 1960 من كولومبيا، ويبقى هناك مدة تعادل إقامة الأستاذ الزائر أكاديمياً، ثم يعقد لقاءات تفاعلية تبادلية مع أهم رؤساء تحرير الصحف العالمية مثل «الصنداي تايمز» و«التايمز» كما يعقد علاقات ولقاءات مع قامات عالمية مثل أندريه مالرو، كما يلتقي ويتحاور مع كبار الشخصيات العالمية القريبة من مصادر القرار مثل بيير سالينجر المقرب من جون كيندي، والذي بقي محافظاً على مكانته.
وعقد كذلك علاقات مع كبريات دور النشر العالمية التي تقدم أهم الدراسات التي تبيع أكثر الكتب في العالم، ونظراً لمكانة هيكل، وبناء على تحكيم تلك الدور قامت بتبني دراساته ونشرها في العالم، وخبرة هيكل وقدرته جعلته يقدم دراسات ذات أهمية كبيرة باللغة الإنكليزية، ومن ثم تمت ترجمتها إلى العربية، ولم تكن تلك الدور لتقوم بطباعة أعمال هيكل لو لم تجد فيها ما هو مفيد وكبير الفائدة، ويختلف عما يكتبه الكتاب الغربيون، ولعل تلك الدور العالمية استطاعت أن تستفيد من وثائق هيكل ومعارفه وعلاقاته وذكرياته.
واستمرار هيكل بعد رحيل عبد الناصر لمدة وصلت إلى قرابة خمسة عقود دليل على ملكاته وإمكانياته، وخاصة أنه بقي على مواقفه التي بدأ بها حياته، فلم ينقلب ولم يغير، ولم يدّع ما ليس له، وإنما حافظ على مسلماته التي تطرح المسألة الوطنية المصرية، ثم تنداح الدوائر إلى مصر والمحيط العربي، ثم مصر وإفريقيا، ثم مصر والعالم الإسلامي، ثم مصر ودول عدم الانحياز، ثم مصر ودول العالم.
هيكل والوثيقة
قرأت دراسات عدة عن هيكل والصحافة، هيكل والإعلام المرئي، وبعضها صور هيكل على أنه يعادي الإعلام المقروء، وبغض النظر عن صحة مثل هذه الآراء أو خطئها، فأولئك يتحدثون عن علاقاتهم مع هيكل ويسردون ذكرياتهم، لكن ما أكتبه من رصد لجهود شيخ الصحافة العربية بلا منازع يقوم على الرصد، وخاصة أن القدر لم يسمح لي بسماعه مباشرة أو اللقاء به، ولكنني تابعت ما استطعت من ظهوره الإعلامي وأفرّعه إلى:
• الشهادات المرئية: دأبت قنوات عربية على إظهار الشهود على العصر، وعلى تحفيز الذاكرة السياسية والتحريضية، نظراً لما يتم تقديمه ووقته، وقد تابعت جلّ هذه الشهادات، واستعرضت أغلب الذواكر التي أعرف أصحابها عن قرب، وجلّ ما رأيته حديث ذكريات يشبه أحاديث الجدات، لا علاقة له بالواقع، ولا يحمل تواريخ دقيقة ولا وثائق ولا أسماء دقيقة، إلا أن محمد حسنين هيكل، وفي كل إطلالة من إطلالاته، سواء كان محاوراً أم ملقياً كانت الأوراق أمامه، فإن أورد من صحيفة قرأها وعرضها عليك مظللة، وإن كان يتحدث عن أمر يذكر التاريخ والمكان والمجريات، ولا يعتمد بأي حال على ذاكرته، وفي أكثر من مرة كان هيكل يعمد إلى تصحيح معلومة وردت منتقصة في حلقة سابقة، وربما كان هذا المنهج وراء عدم ارتياح جهات له ولأحاديثه، ومن ثم ترجم عدم الارتياح بتهليل لرحيله!
• الشهادات المقروءة: قرأت عدداً من كتبه ودراساته، لكنني أقف عند تجربة أكثر من متميزة لا يستطيعها إلا هيكل في إعلامنا العربي، ففي غمرة العزوف عن القراءة والابتعاد عنها، ابتعد الكثيرون ممن يتبنون الثقافة عن إصدار الدوريات الثقافية لأنها خاسرة ولا جمهور لها، ولكن إبراهيم المعلم، ذاك الخبير في الثقافة والنشر أقدم على إصدار دورية ثقافية ذات مستوى عال، فكراً وإخراجاً وورقاً، ولم يترك سبيلاً لإنجاح هذه الدورية إلا سلكه، ابتداء من تسمية الدورية بـ(وجهات نظر) فأنت أمام منبر حر يعبر كتابه عن وجهات نظرهم، ولا يفرضون آراءهم، وهذه الدورية المتفوقة كانت غالية الثمن، ولكنها بصدورها تلقفها القارئ العربي، بل إن المهتم بالشأن الثقافي والفكري كان يعمد إلى حجز عدده مرتفع الثمن قبل صدوره، وقد توبعت وجهات نظر بشغف، وكان هيكل أهم كتابها وباحثيها، إذ كان يقدم الدراسات المطولة والموثقة، وبوجود هيكل ضمن الناشر توزيع الدورية، وفي الوقت نفسه كان عدد من الباحثين الكبار يقدمون دراساتهم الفكرية العميقة، ومن خلال هذه الدورية انطلق عدد من الباحثين الجادين الذين وجدوا منبراً، ووصلوا إلى أكبر شريحة مهمة.. وأذكر أنه عند صدور أي عدد من (وجهات نظر) كان طالبها يبحث عن هيكل، فإن وجده أخذ عدداً وأكثر، وإن لم يجده فقد يتردد، فهل هناك غير هيكل حمل دورية فكرية بهذا المستوى في زمن القحط!!
هيكل الربيع العربي
منذ بداية الربيع العربي المزيف كان هيكل حاضراً وبقوة، أماط اللثام منذ البداية عما يجري، وعن حقيقة ما يحاك، وهو الأكثر خبرة وتواصلاً مع الغرب ودوائر القرار، والصحافة التي تحيط بمتخذي القرار على مستوى العالم، وقف أمام أخطاء الحكام العرب، وقدم نصحه ووقف أمام الظواهر الموصوفة بالربيع محللاً مصدرها ومجرياتها ونتائجها، ولعله أول من نبه إلى خطورة ما يجري ويرسم لتبديل خرائط المنطقة، فلم يركن إلى مصطلحات غير حقيقية كالسنة والشيعة، وبقي على رأيه بأن ما يجري سياسة وحسب! بل حذر تركيا، وحذر العرب من مغبة ما يجري، وإلى ضرورة تضافر الجهود ومع إيران للوصول إلى نتائج أفضل من تعزيز الرؤية الطائفية، وإن تحدث كثيرون عما يجري على أنه خدمة ليهودية دولة إسرائيل، فهيكل هو أول من طرح هذا المفهوم الخطر! ولا يخفى على أحد أن هيكل آثر في الآونة الأخيرة أن يقول رأيه على القنوات المصرية، وبقي حريصاً على مصر والعروبة كما صاغ في ميثاق الثورة، ولم يأبه لسجنه أو إبعاده أو حرمانه من رؤية مجد مصر والعرب.
وسيبقى طويلاً حديثه الأخير لقناة مصرية حين دعا إلى الحوار في كل المناطق العربية، واستغرب العناد العربي وطرائق التعبئة الإعلامية، وكان سؤاله بمنتهى الذكاء: إذا كنا نتحاور مع العدو الإسرائيلي فلمَ لا نتحاور فيما بيننا في البلد الواحد، أو في البلدان العربية؟ وهذه الدعوة التي أطلقها هيكل للاعتراف بالآخر وحقه، لم تجد صدى طيباً لكثيرين طربوا لرحيله، وشمتوا به! ومن المؤكد أن أحدهم لن يتجاوز التسعين ويبقى بوعيه وقدرته وطلاقته وذاكرته! إنه الباركنسون يهزأ بالذاكرة الحاضرة!.