زمن الحب الذي كان!
| عصام داري
ذكرياتنا تجرجرنا نحو الماضي، تعدنا بالفرح والفرجة على متحف حياتنا الممتلئ بالتحف النادرة التي لن تعود أبداً.
مرة بعد مرة أعود للذكريات الحلوة التي هي سجل حياتي وكل تاريخي، لأنني في كل مرة أبحث عن فرحة جديدة وسط محيطات من الأحزان، فلا أجد أكثر من تلك الذكريات التي تحملني إلى عالمي الذي كان، حلوه ومره، بسقطاته، ونجاحاته، مهما كان ذلك الماضي وتلك الذكريات، إلا أنها كانت أكثر جمالاً وسروراً وفرحاً من هذه الأيام التي صارت عقاباً جماعياً وأمراضاً بالجملة، جسدية ونفسية.
لا أصوِّر زماني القريب بأنه مثالي وأنه زمن المدينة الفاضلة، لكنه تلك الفترة التي نطلق عليها اليوم تسمية «الزمن الجميل»، حيث كان الأدب أجمل والموسيقا أروع والأغاني أعمق، والكتاب والشعراء والملحنون عمالقة بحق.
ولا أريد الانتقاص من جيل هذه الأيام، لكنني أعترف أنني منحاز لزماني، ولرجالات ذلك الزمان الذي كان وسيبقى في الأذهان، من ذكرياتي أنني كنت في وقت من الأوقات أنشر في صحف ومجلات كتابات ساخرة، لكنني نسيت اليوم معنى كلمة السخرية والنكتة والطرفة، فهل انتهى زمن الكوميديا لتحل محله التراجيديا السوداء؟
وأذكر أنني منذ نحو خمس عشرة سنة خلت كتبت في مجلة «الشهر» مقالة ساخرة عنوانها «كنتم خير أمة أخرجت للناس.. سابقاً» ولا أظن أنني أحتاج إلى شرح تلك المقالة وأسباب كتابتها، فما جرى بعدها، وحتى قبلها، يفسر السبب الذي جعلني أكتبها، فالمقدمات الغلط تؤدي إلى النتائج الغلط.
وكتبت أيضاً إننا في السابق كنا نسمع الأغاني، أما في هذا الزمن الهزيل فإننا نشاهد معظم الأغاني ولا نسمعها، فالمشاهدة تغني عن السمع، ومن الأفضل أن نشاهد أغاني «الفيديو كليب» ولا نسمعها، كي لا نلوث أسماعنا!!.
زمن الكبار لا يعرفه الصغار، أي زمن أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهم، وزمن رياض السنباطي ومحمد القصبجي وزكريا أحمد، وزمن سيد درويش، والشعراء: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل، وغيرهم كثير، هذا الزمن شبه مجهول بالنسبة لجيل هذه الأيام.
حتى إن صبية شاهدت المطربة أسمهان في أحد أفلام الأبيض والأسود فسألتني من تكون هذه المطربة، فلما قلت لها اسمها أجابتني: أعرف اسمها لكنني لا أعرف شيئاً عنها.
أطلت في الحديث على شكل ذلك الزمان، وشعر وغناء وموسيقا وأدب ذلك الزمان، لكن الأهم هو جوهر زماننا، هو الإنسان ومشاعره وأحاسيسه ومثله العليا، وقبل كل شيء يتربع الحب على عرش تلك الأحاسيس، فما كان، لم يعد كما كان.
من يتذكر الموعد الأول، ولمسة اليد لأول مرة، والقبلة الأولى، وخفقان القلب، والخجل وعدم القدرة على الكلام أو إيجاد العبارات التي يجب أن تقال للمحبوبة، وأتذكر أغنية فرنسية ساخرة يقول مطلعها على ما أذكر: «أنا مع البنات لا أعرف شيئاً، أتحدث معها عن الطقس أم عن الحب» وهكذا كانت حالتنا في بدايات شبابنا وحب المراهقة الأول.
هذا زماننا.. وهذه ذكرياتنا الجميلة التي نهرب إليها للفرجة والراحة ولإشعال شموع الفرح الذي كان.