السومريُّ بين ماضٍ وآتٍ … «قيامة الطين» تمجيد للرمز الـذي خلق منه الإنسان
| نجاح إبراهيم
مرّ العنوان، يتهادى أمام ناظري، فاستوقفني، لطالما أدهشني الطين لما يحقّق لنفسه من تشكيل، يزهو به، وذلك من خلال قياماته، خلاف ما نعته إيليا أبو ماضي بالحقير والمتكبر، وتوقعتُ أن أرتقي عالياً بها، فأنا عاشقة لكلّ ما يتصاعد نحو زقورة الإبداع.
وحين قرأتُ القصيدة للشاعر (قاسم وداي الرّبيعي)، وللوهلة الأولى، أحسستُ بتمدّد يأسٍ طاغٍ، وثمّة «ثقب أسود يُرى من خلاله وجه مهجور تسيره أسلاك شائكة».
شعرتُ بعجز الشاعر عن فعل شيء، أو تجاوز الراهن كحالة فاعلية إبداعية، وأن هناك تواطؤاً بينه وبين الغربة والاستسلام لسحرها، إن أجيز لي تسميتها السحر «وفمي يلهثُ بالغربة/ شاحبة مفاتن الزهر/ أمدّ يدي يأتيني الرّحيل».
هذا الابتعاد عن التخطي، والانغلاق على همٍّ، والتكبل بواقع مثقلٍ بالجدب والمرض هو ما دفعني للحكم على سلبية موقف الشاعر.
ولكن حين اتكأت على اندفاعي لإنصاف السومري الذي «يجهلُ العثرات» ويفاخر بحضارته الأليفة « الباقية، أيقنتُ أن في قراءتي العجلى إجحافاً بحقه، هذا المتفاخر الذي يليق بالخلود. فانتضيتُ سيف قيامتي وهدمت عثرتي، واشرأب حبري مستنفراً، لأتابع معه ملحمة شمس مسرجة، يرغب في أن تصل صرخته حدودها.
تتالت القراءات للقصيدة، فعلمتُ أن لها بُعداً لا يمكن أن أصل إليه من القراءة الأولى، وأنّ تلك الانحناءة / الخضوع للطين المستقرّ في أنفاسٍ متخمة برائحة الضفاف اليابسة، ما هي إلا تحفز وتطلع للانبثاق، وأنّ ذلك التمجيد للطين الغافي، يرمز إلى الإنسان الذي خُلق منه، وعدم مغادرته ضفافه أبداً، فهو أصل تكوينه، وكذا يُنظر إليه لرصد لحظة التخلق / الثورة، وذلك القارب الذي يرسو، ما هو إلا مهر جامح ينتظر إيعازاً ليرمح في الفضاء، مطلقاً مواويلَ عشب كان جدّ السومري قد نسجها بفخر، ونثرها، في حين هو يجمعُ أضلاع القحط لعدم قدرته على تجاوز محنته.
بهذه العبارة البسيطة يأتيك «قاسم وداي الربيعي» بالماضي الذي يشكله الجدُّ، والحاضر المجدب الذي يمثله الشاعر، ولهذا دلالة، أولها أن الشاعر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالماضي، الذي لا يستطيع الخروج عنه، فالماضي تاريخ مشرّف، يردد (ثورة الرشاش) التي حققت انتصاراً على الإقطاع في الخمسينيات من القرن الفائت، انتصاراً على الألم والفقر، فتلك الثورة، والرّاهن المجدب، واقع الشاعر الآن، وويلات حروب، وما يتمخّض عنها من قتلٍ ودمٍ ودمار، وفقرٍ واغترابٍ، آن له أن يمحوها؟!
لهذا لم يخرج الشاعر عن التاريخ، عن جدّه، عن كنز سليمان المتوج بالحراسة من الجنّ في (ميسان)، فمنه ينطلق إلى واقع وإن كان مرّاً، ليحظى بمستقبل يستشرفه، وهذا الأخير لا يأتي إلا في لحظة تتصل جوهرياً بالأمس، مروراً بالحاضر.
فالشاعر يرسم أفق المرور، لكنّ الطين يستحيلُ وحلاً حين لا يرغب فيه، بيد أنّ: «من يرد أن ينقذ المطلق، فلابدّ له من أن يدخلَ وحل التاريخ، ولئن كان وحل التاريخ يطغى الآن فلا مفرّ من الهجوم عليه..».
فكيف هجم (الربيعي) على ماضي الطين؟
هجم بالرّفض، وأشار إليه، وهل تكون الثورة التي يدعو إليها مجدداً، ممتطياً دم الأجداد، من دون رفض؟! فالرّفض يعني أنه يرى واقعه المقيت، يدركه ليلمّ حضوره الطاغي كوجع قديم، كصمت ثقيل قبل العاصفة، كبرق يتلامع، ثمّ يأتي فيما بعد، الماء، الطوفان، المطهر من كلّ إثمٍ وخطيئة.
القصيدة، تضجُّ بحلم الشاعر / السومري، بعودة ثورة الرّشاش، التي قام بها السلف ليتجاوز عن حاضر يمثلُّ رخاوة الطين وبلاهته، وما هو خافت فيه.
وذلك حين قال: «لا تصمت، هذا القادم بلا جلد». فإن الطين يحتاج ناراً لتصلصله كي لا يظلّ هابطاً، رخواً وبارداً، يحتاج ثورة تمكنه من الصمود.
لهذا ارتأى أن يحملَ سلاحه، حضوره الشعري اللافت، هذا الحضور الفاجع، المؤلم، البهي، النابض، الخالق، الواهب.
إنه البحث عن الحقيقة، عن حياة مستساغة تؤمّن الكرامة للإنسان، وحين يعرّيها الشاعر، ويحاول الشروع بالخطو متسربلاً بالرّفض، يكتشف أحذيته ممزقة.
فمتى تستعد الأقدام لاختراق الطريق؟
في القصيدة ثمّة حضور للمتناقض الآثم، يتمرّغ بحرية فيها. قد تشعر بمجهول يترامح، بيد أن الشاعر يعلم علم اليقين أن حرفه ذو أثر، وأنّ صمته سيولد صرخة يُراد بها إيقاظ النيام، فهل تعدّت هذه الصرخة حدود الفم، أم إن الفم مشبع بالغربة؟!
هي سردٌ لحكاية المتناقضات ليُثرى الشيء بنقيضه، وليشير إلى الأقوى، الأجمل، إلى تسيّده، على الفراغ، هو الممتلئ، على القيد، هو الحرّ الجامح، على الانغلاق، هو المنفتح، على اليباس، هو الخصب، على اليأس، هو الأمل.
هو الوعي، لدى قاسم وداي الربيعي، الذي أشار من خلال إبراز تلك المتناقضات إلى الأفضل والأسمى، إنه العالم الذي أوقفه في فمه، الوطن المحترق يسكن في الشفاه، فيلخص فاجعته المكرورة بوباء الطاعون اللا ينتهي. ويترك القارئ يفتح صفحاته واحدة إثر الأخرى، ليقرأ قيامة الماء ثم الطين.
فكيف تكون قيامة الماء؟
بالطوفان حتماً، ليطهّر كلّ ما عليها، إنها عملية عماد لكلّ الأشياء، والناس، والكائنات، حتى يسود النقاء، فقيامة الماء لا يقف في وجهها أحدٌ، ولا يعتصم من غضبها إنسانٌ، وإن هرع إلى أعلى الجبال. أما قيامة الطين؟ فهي تشكيل وخلق وانبعاث للإنسان من جديد، خاصة الرّجل الذي بدأ اللـه بخلقه.
القصيدة نهرٌ من الرّموز والدلالات، فالرّمز دالٌّ أكثر مما يتوقع الحصيف في التأويل، يلقي بالقارئ بعيداً خارج القصيدة، وما عليه سوى أن يلاحق قياماته، إنه كما قيل: «اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة». يعيد الرّمز إلى بداية القصيدة، ليحلق به بعيداً، ليجد رجلاً يسرد حكايته الطينية، وحين يروح بالسنوات، يختلط على القارئ، فلا يعرف، هل كان السارد رجلاً، أم بلدة ملقاة في حضن الأهوار؟ وحين يمعن النظر، يجد ألماً لا يحدّه ألم، ويقرأ واقعاً محلياً، يتعاظم ليكون عربياً، تكبر الدائرة، تكبر جراء تلك الحصاة التي ألقيت في بركة الماء الرّاكد، لتصبح بحجم قهر وفقر وغُصة غير خافية، فالشاعر يحكي لسان حال الفقراء، المكافحين، والمتضررين، لنقبض على غصة كبيرة في حلق هذا السومري، الذي يرى كلّ شيء، لا طعم له سوى المرارة، ولا لون سوى اللون الكالح لمفاتن الزهر.
إنه رمز الموات، واقع يفرد موتاً مجانياً، فيوسّع غربة داخلية، وينشر التفتت، فتطغى الرغبة في الرحيل.
فما أقساها الفصول حين تأخذ حضور الموات والغربة! تشبه عيون مدن نائية، تجعل الشاعر يشهق بساحاتها، ويرتعد خوفاً لأنها تلقي بخطاياها.
فمن يخلص المدن من خطاياها؟ كما قال السياب عن بابل.
إنها القيامة التي ولدت القصيدة من رحمها، كفينيق يتخلق من برودة الرماد، إنها القصيدة الرافضة، التي تحتضن ذلك الحنظل، وكلّ الحلوق التي تحمله، وتقوم به، لترشّ زهور انبعاثاتها، وتتفجرُ حركة فاعلة، تلعن الجمود، لتثور حرّة تملأ الاتجاهات.