على طريق مرج دابق 2016
| عبد المنعم علي عيسى
ترصد مسيرة «جيش الثوار» بدءاً من التأسيس (الأول من أيار 2015) إلى اليوم حالة التناقض القائمة بين أنقرة وواشنطن وتقلباتها فمنذ أن تأسس هذا الأخير كان قد حظي بدعم الاستخبارات الأميركية وبالتالي (الحضن) التركي بعد أن قامت تركيبته على مزيج عربي كردي تركماني، ولطالما كانت تلك التركيبة هي السمة الأبرز الدامغة لقوات سورية الديمقراطية التي تأسست في تشرين الأول من العام 2015 في محاولة للقول: «من قبل المؤسسين ومن وراءهم أيضاً» بأنها «القوات» إنما تمثل السوريين جميعهم بغض النظر عن انتماءاتهم الإثنية أو القومية، ولذلك فإن اندماج جيش الثوار داخل هذه الأخيرة لم يكن أمراً مفاجئاً بحكم الشعارات أو الأهداف التي انضوى الاثنان تحتها فضلاً عن أن الداعم الأساس لكليهما كان واحداً، فمنذ أن بدأت خطوات جيش الثوار الأولى ظهرت عليها لمسات أصابع الاستخبارات الأميركية ثم لم تلبث أن أضحت أكثر وضوحاً بعد انضمام هذا الأخير إلى الفصيل الأم (قوات سورية الديمقراطية) الذي حظي ولا يزال بمظلة دعم أميركية كانت واضحة المعالم جداً.
كانت أنقرة تحسب حساباً للمظلة الأميركية التي تظل كلا الفصيلين المذكورين قبل أن تعمد مؤخراً إلى قصف مواقع كل منهما بدءاً من 14-18/2/2016 في تحد صارخ للإرادة الأميركية، تريد (أنقرة) بذلك إيصال رسالة إلى واشنطن مفادها أن لا حصانة بعد الآن لحلفاء واشنطن على الأرض السورية، ولربما أرادت الرسالة الذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير بمعنى آخر أن تقول: إن على واشنطن ألا تتوقع بعد اليوم من أنقرة سلوك الحليف بعدما أصرت الأولى على رفض مطالبها (+ مطالب الرياض) في قيام منطقة آمنة في الشمال السوري حتى بعد أن قبلت (أنقرة) بـ«ميني» منطقة آمنة تكون بعمق 10 كم داخل الأراضي السورية على أن تضم بين حدودها مدينة إعزاز كما جاء على لسان نائب رئيس الوزراء التركي يلتشين آق دوغان 17/2/2016. يبدو أن مسار الأحداث في الأيام القادمة سوف يذهب نحو دور مركزي متزايد لهذه المدينة الأخيرة (إعزاز) الواقعة جغرافياً في سهل (مرج دابق) في استعادة رمزية لمعركة مرج دابق التي دخل الأتراك بعدها سورية 1516 ثم باقي البلدان العربية، ولربما أضحت مركز الثقل في التحولات الجارية الآن في الريف الحلبي بل في المنطقة برمتها فهي اليوم تمثل نقطة تلاق للمناطق الكردية مع خط إمداد المعارضة السورية المسلحة المدعومة تركياً، الأمر الذي يبرر الحشود العسكرية الجارية للتحضير لمعركة الحسم فيها حيث ستحدد نتائج تلك المعركة حجوم الأدوار لأطراف الصراع – ومن وراءهم- وبمعنى آخر سيكون من في يده مدينة إعزاز غير من خسرها.
احتدمت معارك الريف الحلبي وخصوصاً الشمالي منها بدءاً من مطلع شهر شباط الجاري وفيها استطاع الجيش السوري تحقيق مكاسب جغرافية وعسكرية عديدة كما تبدى أنه عازم على قطع حبل المشيمة الذي يربط الفصائل المسلحة بالرحم التركية، وكان أن استطاع أن يضرب حصاره حول تل رفعت القريب جداً من الحدود التركية بدءاً من 12/2/2016 الأمر الذي يجعلها في العرف العسكري منطقة ساقطة عملياً، كان ذلك قد حدث بالتزامن مع تقدم كبير لوحدات الحماية الشعبية الكردية التي أضحت تهدد بالوصول إلى الحدود التركية والسيطرة عليها في مشهد أخرج الأعصاب التركية –المرهقة أصلاً- عن طورها الأمر الذي دفع بها إلى التدخل المباشر دعماً لتلك الفصائل وخشية من حدوث انهيارات كبرى ستكون الجغرافيا التركية فيها الملاذ الوحيد الذي يمكن أن يحتوي نواتجها، وهو ما تمثل بقصف مدفعي تركي مكثف لمواقع وحدات كردية أيام 14 حتى 18/2/2016 بالتزامن مع دخول 700 مسلح جاؤوا عبر معبر باب السلامة الحدودي تحت غطاء ذلك القصف المدفعي المركز، حدث ذلك يوم 15/2/2016 ليعلن في اليوم التالي مسؤول ميداني كردي لوكالة (سي إن إن) الأميركية أن المسلحين الذين دخلوا من باب السلامة هم مدربون تدريباً جيداً وأداؤهم الميداني يشبه ما تمارسه عادة الجيوش النظامية، الأمر الذي يؤكد أنهم جنود أتراك نظاميون كانوا قد دخلوا تحت عباءة المسلحين التركمان من لواء السلطان مراد أو أحد فصائله.
غدا المشهد في ريف حلب الشمالي متشابكاً ومعقداً ففيه الجيش السوري ماضٍ نحو هدفه في عزل المؤثر التركي استعداداً لمعركة حلب الكبرى كما صرح بذلك مسؤول عسكري سوري وفيه توتر تركي أميركي أدى إلى قيام أنقرة بقصف حلفاء واشنطن على الأرض السورية كجيش الثوار ووحدات الحماية الكردية، وفيه الوحدات الكردية عازمة على الوصول إلى الحدود التركية، لذا فإن سير الأحداث بات في غاية التعقيد إلا أنه بات من الثابت أن الطلاق الأميركي التركي قد أضحى (بائناً) على الأرض السورية، وليس من الصعب علينا تأكيد أمر كهذا ولربما يكفي لذلك ذهاب أردوغان إلى تهديد واشنطن 12/2/2016 التي بات عليها الاختيار فيما بينه وبين الأكراد، فيما كانت ردة الفعل الأميركية غير مسبوقة فهي لم تكلف نفسها عناء الرد على أي مستوى كان، هذا الاحتقان التركي وصل حدوداً باتت صعبة، الأمر الذي دفع بأردوغان إلى طرق أبواب تل أبيب لتطبيع العلاقات معها خارج الحدود التي كان قد اشترطها العام 2010 في أعقاب مقتل 12 ناشطاً تركياً على سفينة مرمرة الذاهبة نحو فك الحصار الإسرائيلي عن غزة، وهو إذا ما تهيأ له (تطبيع العلاقة مع تل أبيب) فعلى الأرجح أن تكون جميع وعوده –إذا ما كانت هناك وعود- للسعوديين بالمشاركة في أي عمل عسكري بري يهدف إلى غزو سورية هي وعود كاذبة ومن المستحيل له أن ينفذها مهما تكن الإغراءات السعودية المقدمة له، أما في حال العكس فإن الأمر أيضاً خاضع لاحتمالات عديدة، وما يزيد المأزق التركي هو أن الروس أيضاً ماضون في سعيهم لعزل تركيا عن الحدث السوري لتضيف إلى ذلك صحيفة التايمز البريطانية بأن موسكو كانت قد جهزت خمسة آلاف مقاتل كردي زودتهم بالعتاد اللازم مدعومين بأحدث الطائرات الروسية لقطع طرق الإمداد أو تصيد الشاحنات التي تنقل المؤن والمعدات إلى الفصائل المسلحة من تركيا إلى سورية، على حين إنه يمكن النظر إلى الأداء الروسي الحالي على أنه يسعى نحو جر الأتراك للقيام بعملية عسكرية برية ضد أكراد سورية حتى إذا ما تحقق ذلك ذهبوا إلى ثأر الجرح الروسي النازف منذ 24/11/2015، حتى الآن التهديدات التركية السعودية موجودة في فضاءات تنعدم فيها الجاذبية الأرضية إلا أن المشكلة هنا هي ليست في عملية السير إلى الأمام بل في العملية النقيض (السير إلى الوراء) وهو ما يقلق مطلقي تلك التهديدات فإن تخرج لشيء لست أهلاً له فلا يمكن لك أن تقول إن الأمر فشل وانتهى أو«حظاً أوفر في المرات القادمة» فالتداعيات أعمق من ذلك بكثير ولربما ستكون الدريئة (الصفيحة التي تتلقى التصويب عليها) الأولى هنا هي التحالف السعودي- التركي القائم منذ شباط 2015 تحت اسم «تحالف الضرورة»، حيث من الممكن أن يؤدي انفراط عقد ذلك التحالف إلى حالات ارتداد داخلية خطرة في الداخلين السعودي والتركي على حد سواء وهو ما يفسر قول السيد حسن نصر اللـه مؤخراً: «إن عدم دخول القوات السعودية البرية سيكون نصراً إقليمياً أما دخولها فهو نصر على مستوى المنطقة بأسرها (15/2/2016)».