دينٌ ودنيا
| د. نبيل طعمة
ثنائية تدعونا الضرورة إلى فرد العلاقة بينهما، لا من أجل أن يتجه الخاطئون إلى التوبة؛ بل بغاية الوصول للصالحين الذين نطالبهم بتصويب سهام الفكر المذهبة إلى صدور الرياء وكشف ما ركب على البسطاء من المؤمنين، حيث يجهد الإيمان في الدفاع عن حقوق الإنسان وطمأنته في حاجاته الرئيسة، ومنه نسأل عمّن دعا الآخر إلى امتطاء قمرنا المشرقي، وقاده إليه، وبقينا نحن نتغزل بإطلالاته ذاك الذي قبض على خيوط الشمس بقوة علمه بها، وخاطبها أنَّ من إرادتي تشرقين، فهؤلاء الذين يهربون من إشعاعك عليهم إلى الظلال، لا يستحقون إشراقك، ما أكثر ثوراتهم على بعضهم، وإيمانهم بالموت الذي يطاردهم، كما يطارد جميع الكائنات بأقدام لاهبة وأنفاس باردة صفراء وثنية، تدعي الإيمان، ولا تؤمن به، أولئك الذين تحولوا إلى مدّعين أخضعوا أنفسهم لقواهم اللاواعية الممتلئة نفوسهم بالسلبية، لأن عدم الإدراك بأن هناك عقلاً كلياً سامياً، يقف وراء كل شيء، ويعمل بالتبادل مع مكوناته، فنجد أن توقف السعادة نتاج الفرقة والاغتراب، فتمنح فرصة هائلة للتخلف، تسمح باستباحة الأنوار الخالدة، حيث تشقّ عتم الظلمات، وتؤسس لجموح الجمال، كي يتخلف التصوف الرزين، ويظهر منه الشطح العاقل، يحلق الخيال، يعصف بكل الفواصل، تنقطع الصلة بين أغنياء العقل وفقرائه، ليتجه العارف للوحدة الأثيرية المفعمة بأنفاس المحبة والجمال، يحضر الوحي لحظة أن تسبح الدنيا في الظلام، وتهدأ الرمال الثائرة، وتستكين على صدر الأرض، تتبعثر سحب السماء، ويختفي منها قوس القزح، تنتشي الألحان على الشفاه، ويعدُّ القلب نبض النغمات، كيف تبنى عظمة الأمم، مؤكد أنَّ إحداثها لا يتمّ إلا على حساب تخلف أمم، كيف تمجد الحروب، من المنتصر، ما حال مغامرات المنكسرين؟ هذه المسائل التي تتجول في عقل التاريخ المستمر في تدوين النتائج، هل يشبه أمس الإنسان غده؟ وماذا تعني له معاناته في حاضره المعيش غير التغيير حيال ذلك السرّ القديم الحديث المحجوب عن الديِّنين واللاديِّنين، سرّ هذا الوجود عمَّن يحول، وأيان منتهاه، حيث يوقفنا في لحظة تأمل واجمين مبهوتين، فإن لم نمتلك الأنوار المعرفية، دخلنا عالم الظلمات التراكبية، هل الإنسان يحيا الدين في الدنيا، أم إنه تكوَّن من دين ودنيا؟ ما معنى الدين؟ وما مفهوم الدنيا؟ هل يمكن فصلهما عن بعضهما؟ وهل استطاع كائن من كان رغم كل الدعوات الأيديولوجية إلى القيام بذلك، ولم ينجح؟ ما معنى ظواهر الوجود المندفعة من أزل الأزل إلى أبد الآباد ضمن حركة لمحات الزمن خلق مستمر، يمتد من عالم الحرية إلى عالم الحتمية التي تظهر كعبد للأشياء، تسجنه في إرادته من دون أن يدري بأنه غدا سجيناً يتسارع في العقل، كل ذلك يضرب يمنة ويسرة، آونة قاتمة، وآونة ملتمعة، فتنقبض النفس حيناً، وحيناً تنار، لتنساب ينابيع متدفقة عذبة خلال غاب كثيف، يصارع الرياح العاتية، نمرُّ بها فنرى الجمال مؤتلقاً، نستحضر المكوّن، نشكره على روعة صنعه فيما صنع، يعلمنا المشهد أنَّ كل من يصنع فهو صانع على شاكلته.
ما دعاني للكتابة تحت عنواننا مادة فكرية انسابت من فكر الفاضل المفكر والمؤمن بإنسانية الإنسان المطران جورج خضر والتي كانت بعنوان أين المسيحية؟ ومرَّ من خلالها على مفهوم الدين والدنيا، ومنه دخلت على هذا المعنى، حيث أتحدث به سائلاً أين الإسلام؟ الذي اتخذه جمع من البشرية منهجاً، أكملوا به مثلث القداسة، وتعلقوا فيه، وعن فكر مريديه الذين حملوا الإله معهم إلى القتال، وإلى الفقر، وإلى الخوض في الأوحال، تلوثوا بكل ما هو سلبي، ولوثوه من دون قدرتهم على توطينه في جوهرهم، أرادوه أمامهم، يوقظونه قبلهم، يذهبون به إلى كل مكان معتقدين بأنه حاجتهم في الإثبات والإقناع والنفي، وأيضاً هو لهم حجة في التصديق والكذب معهم، وهو منهم في كل هذه الحالات براء، لأنه إله حبٍّ وجمالٍ وخلقٍ وإبداعٍ، لم يدركوا الفكرة العميقة من مفهوم الدنيا، فراحوا يتصورون عصراً ذهبياً لا عناء فيه ولا حزن، معتبرين وجودهم امتلك كامل النماء العقلي والاتساع الذي يحمل مباحث العلم وتطبيقاته على شؤون الحياة، لم يدركوا حتى اللحظة أنَّ لا عصر أو مكان تجنى فيه ثمار العلم بغير العمل من دون أمل، لا يكون فيه للصبر قيمه، وتحمل الآلام تضيع قواه، وتخور من دون الخطايا والآثام التي يرتكبها الإنسان، ولم يدركوا أن قربنا من الطبيعة، يمكننا من اقتناء سلام النفس، ولا يعني الاعتداء عليها؛ بل يطالبنا بحمايتها وزيادة وجودها، وهنا أقول: إن الدين غايته الرئيسة تكمن في إشباع جوعنا العقلي الذي إن حصل اتجهنا إلى بناء الدنيا، فلا يمكن للاثنين العمل معاً، وإلا سقطنا في متاهات الهوى الغريزي الدافع الاستثنائي الدائم نحو الهاوية، وأخذتنا جنسية الجنس إلى الدرك الأسفل من الحياة، كي نبقى ونستمر كعالم ثالث وربما بلا نهاية.
الإيمان المعرفي يدخل الدين في الدنيا، ويمنع سيرهما كخطين متوازيين لا يلتقيان أبداً، أما الدين الشمولي فيبقى في حالة صراع مع الدنيا، يحاول الانقضاض عليها، كلما سنحت له الفرصة من دون القدرة على استيعابها، وفهم أسباب حضورها فيها، وهنا أقول: إن الدنيا نظام عرفت فيه الشؤون المادية، ووضع لها الأسس القانونية، لأن الدين في الأساس غايته تهذيب الإنسان من الجوهر، والدنيا تحافظ عليه، وعلى حقوقه السيادية في المظهر، فإذا كانت الدولة النظام والإدارة والقيادة، فإن الدين ضمنها، يجسد العامل المساعد على الانتظام، لأن من أَوْلى واجباتها التنظيم، حتى العلمية الدينية تحتاج وجودها والإشراف عليها منعاً من انفلاتها، فالعلاقة بين المحرّم والمحلّل كعلاقة الحرية بالعبودية، والحب بالكراهية، والاستفزاز المزعج للجمال الكليِّ القادم من وحدة الوجود؛ أي التنوع الإنساني مع المكوّن الكليِّ، ليكون هذا في ذاك، وذاك في هذا، لذلك أدعوكم أيها السادة المشرعين والأئمة المفتين والمفسرين إلى البحث في عنواننا والتفكُّر فيه من أجل استمرارنا، وبغاية التواصل مع عصرنا.