ثقافة وفن

أسس في اللوحة المحليّة وصورة المكان فكان رائداً في الحداثة .. نذير نبعة … نكهة لونٍ سوريّ في عالميّة الفنّ وتأسيس لتشكيل مختلف

| عامر فؤاد عامر

نقتفي مآثره ونتتبّع خطواته لنجد فيها الكثير من القوّة والحساسيّة، والمزيج بين الأصالة والحداثة، وحتى الآونة الأخيرة من عمره نلمس قناعته في رؤية الموت وتحليله الصوفي له، وعن عمرٍ يناهز 78 عاماً عاش في رحلة ملأى بالاكتساب والعطاء، فكانا خطين متوازيين لديه، لكنه وبعد اليوم يبقى لخط عطائه الغلبة، فهو مدرسة فنيّة ذات طبيعة سوريّة لم تكن يوماً إلا ضمن حدود الجمال وفي نسبةٍ تأخذ بالمزيد من الإعجاب والفخر لكلّ من عرفه وسيعرفه من الأجيال القادمة.

بستان أم محمود
ولد الفنان التشكيلي «نذير نبعة» في دمشق 1938، وعن مكان نشأته « المزّة» نأخذ على لسانه المقتطف: «ذاكرة البستان هي الجذور التي صنعت المفاهيم والأشكال والرموز التي تراها اليوم في لوحاتي؛ فلو كان العمر شريط فيديو ورجعنا به إلى الوراء، فستكون فترة طفولتي هي من أجمل أيام عمري؛ تلك الفترة قضيتها في بستان جدّتي «أمّ محمود» في المزّة، القرية المشكلة من بيوت طينيّة وليس على ما تراه اليوم من إسمنت أكلها عن آخرها».

رسم الملابس – مرسم الجعفري
لكن بالعودة إلى تلك الذكريات المفعمة بالبراءة، وبالألوان الأساسية سنجد أن المزاولة الأولى للرسومات كانت من خلال عمله مع والدته، التي كانت تخيط الملابس لنساء القرية، فكان هو يطبع رسوماته عليها، وكان بذلك يكتشف نفسه في لوحة فريدة، تحمل طابعاً حياتياً، يثير السعادة في نفسه، فرسومه تلك كانت تحيا منذ اللحظة الأولى في ابتسامة صاحبتها وتحركاتها، وينتسب «نذير» صغيراً إلى مرسم الفنان التشكيلي «ناظم الجعفري» في ثانوية «التجهيز» ليتابع بصورةٍ أقرب تقنياتٍ تخصّ الرسم وأدواته ليتفهم طبيعتها وأنواعها ومنه أخذ كرم التعامل مع الحالة الفنيّة والجديّة في التعلّم، وتشير سيرته الذاتيّة إلى أنه كان يتردد إلى منزل الفنان «محمود جلال» ليتأمل في لوحاته وينبهر في ألوانها أيضاً.

القاهرة وثقافة أكاديميّة
بقي الحلم كامناً في دواخله إلى أن أنهى دراسته في دمشق وانتقل في بعثة إلى مصر لدراسة الفنون الجميلة عاصر فيها كبار المثقفين، والشعراء في تلك الفترة الممتدة أيام الوحدة بين سورية ومصر ونذكر من هؤلاء: «عبد الرحمن الأبنودي»، و«سيد حجاب»، و«أحمد فؤاد نجم»، و«محمود أمين العالم»، و«آدم حنين». وكانت الدراسة في القاهرة في مرسم عبد العزيز درويش امتداداً لستّ سنواتِ ليعود بعدها إلى دمشق 1965 مع الفنانة التشكيلية «شلبيّة إبراهيم» التي أصبحت زوجته.

الفرات والعودة للجذر
التحرر من الأسلوب الأكاديمي الذي كسبه من القاهرة كان بعد عودته إلى دمشق والانتقال إلى دير الزور كموفد للتدريس في مدارسها هناك فدخلت الرمزيّة لوحاته في أجساد مرصّعة بالتمائم ووجوه ذات عيون كبيرة، ويبدو أن الاهتمام بالعيون واكب أعماله فترة طويلة امتدت ما بين1966 و1975، فحاول الفنان «نذير نبعة» الاقتراب هنا من الفنّ التقليدي المحلّي. والمتتبع للوحاته في تلك الفترة سيجدها محمّلة بجوٍّ ملحميٍّ حالم، ووجوه ببشرة سمراء، وعناصر من الأنتيكا مدهشة في انتشارها، وفتيات عاريات الصدر والمزيد من الزخرفة المتآلفة معها، ومع هذه التجربة الزمانيّة والمكانيّة يمكن الملاحظة على أسلوبه تجسيد الشخصيّة الفراتيّة التي ربطها مع المكان واكتشاف البادية، فكانت ألوان الصحراء أكثر حيويّة في لوحته المتجددة، والعلاقة مع نهر الفرات والطبيعة المختلفة التي تحمل في مضامينها سطور حضارات أولى في المنطقة ما أضاف لتجربته التشكيليّة، فكان أن بدا على لوحته ذلك الأثر بقوّة فجاء اللون الأسمر يفيض بين النيل الذي استقى منه والفرات الذي استقر إليه.

الفدائي والنكسة
من العلامات الفارقة في خطّه الفني هو تبديل مواضيعه الفنيّة عقب نكسة حزيران عام 1967 فانخرط في المقاومة الفلسطينيّة، وكان عضواً في «حركة فتح»، فرسم الفدائي في الملصقات السياسيّة التي انتشرت بقوّة في تلك الفترة، وشخصيّة الفدائي تلك هي التي كانت المنقذ من الاكتئاب وحالة الإحباط العامّة، فكانت بوجودها تدافع عن مفهوم الوطن، والدفاع عن الحقوق المغتصبة التي تسربت من بين أيدي العرب، فكانت الناطق الرسمي بلسان الحراك الفلسطيني، ولانغماسه في العمل الفدائي ما زال الكثير يعدّونه فلسطينيّاً إلى يومنا هذا.

بوزار باريس
غادر الفنان «نذير نبعة» الوطن من جديد وهذه المرّة إلى باريس 1972، فدرس في المدرسة الوطنيّة العليا للفنون هناك وقدم مشروع تخرجه في (البوزار) الذي حاز عليه المرتبة الأولى، وما يميّز تجربته هنا بالتحديد هو التمسك بالجذور والبحث عنها في عيون الآخرين، فلم يكن له انحلال في الانبهار بألوان بعيدة عن منشئه، ولا سفر الابتعاد عن كينونته التي منحته نبعه فكان يبحث عن سيرورته في كل مكان زاره وهذا ما يدل على أصالته في سوريته التي تجذرت فيه فمنحت اللون إشراقته في كل لوحة قدّمها وانتزع من الجميع شهادة في الشرق وفي الغرب، فلا يمكن تجاهل هويّة المكان في لوحته ولا لون البشرة لابن المنطقة ولا الصوفيّة كخصوصيّة ولا اللون الصحراوي ولا النظرة العميقة للوجوه الدالة على العمق الحضاري.

اتجاهات
بعد العودة من رحلته إلى الغرب أصبح أستاذاً في الدراسات العليا في قسم التصوير في كليّة الفنون الجميلة في دمشق، وكان له عمله في الصحافة السوريّة فرفع من مستوى الرسوم التوضيحيّة وفنّ الغرافيك فيها، وفي الثمانينيّات من القرن الماضي شكّل الفنان «نذير نبعة» مع رفاقه «أسعد عرابي»، و«الياس الزيّات»، و«خزيمة علواني»، و«غياث الأخرس»، و«غسان السباعي»، و«عبد الحميد ارناؤوط» ما عُرف بـ«جماعة العشرة» احتجاجاً على أداء المؤسسة الثقافيّة الرسميّة، ودفاعاً عن تصوّر هؤلاء عن الأكاديميّة الفنيّة ودور اتحاد التشكيليين السوريين في رفد ودعم الحركة الفنيّة، وقد عرف أعضاؤها في النهاية أن الفنّ هو مسألة ذاتيّة؛ ووقعت الخلافات بين أفرادها بعد مدّة قصيرة فتفرقت وعادت إلى مفهوم المرسم والمعرض الفردي، وميّزة هذه الجماعة أنها جاءت في فترة كانت مهمّة على المستوى العربي.

فاتح المدرس
من بين النقاط البارزة في حياة «نذير نبعة» الفنيّة كان التفاته لما قدّمه الفنان الكبير «فاتح المدرّس» فجاء استلهامه للإرث الثقافي والجمالي الذي سبق الإسلام متناغماً مع ما اختاره وتعلّمه من جولته التدريسيّة في محافظة «دير الزور» فزاد اهتماماً بالحياة الشعبيّة، وقصص القدامى، وذكريات الفرات، والعلاقة مع الصحراء. ومع كلّ حدث يعني الأمة العربيّة، كانت ألوانه تنساب بلغة أكثر حساسية فكان اجتياح العاصمة «بغداد» حدثاً مثيراً كي يرسمها بعد تعرضها للقصف الأميركي من الجو مقتبل التسعينيات وكثير من الأحداث غير ذلك كما مجزرة «قانا» وغيرها.

قالوا فيه
يصف الفنان التشكيلي «طلال معلا» واحداً من المعارض التي قدّمها الراحل: «كان هزّة قويّة في الوسط التشكيلي السوري؛ إذ كُتِب عنه الكثير من النقاد وممن يهتمون بالفنّ التشكيلي في تلك الفترة؛ انطلاقاً من أهمية هذا الفنان الجديد الذي قدّم صورةً مختلفة وبشكل تعبيري راقٍ عن الحالة الإنسانية في سورية، مجسداً موقفه من التشكيل من جهة ومن القضايا التي تطرحها لوحاته، ولذلك يمكن القول إن (نذير نبعة) كان من مؤسسي الحداثة في التشكيل السوري».
الفنان التشكيلي «نزار صابور» يتحدّث عن تجربة الفنان «نذير»: « هو من الجيل الذي أعطى للفنّ البصريّ السوري حضوراً وتميّزاً، وكان أستاذاً لأجيال مرّت في كليّة الفنون الجميلة، اهتمامه بالطلبة ومحبّته لعمله جعلاه الأقرب إلى أغلبيتهم».
الفنان «بسام كوسا» يقول أيضاً عنه: «قيمته الفنيّة وصلت إلى كلّ جمهوره، لكن أثره وبعده الإنساني لا يقلان أهمية أو نبلاً عن فنّه، غالباً يتباين المستويان الفني والإنساني عند المبدع، لكن عند «نذير» كان الأمر مختلفاً لأن روحه حملت هامشاً إنسانيّاً واسعاً مشى بالتوازي مع فرادة فنّه».

تصالحٌ مع الموت
توفي الفنان التشكيلي «نذير نبعة» في دمشق بعد مرحلة من التعب الصحي، من أحاديثه السابقة يقول عن مفهومه في الموت ويشرح: «… الموت لدي هو ما بعد الحياة؛ وهو ليس شيئاً محزناً أو مخيفاً؛ فما بعد الحياة يمكن أن يكون هناك حياة أخرى، فعندما أقول إن بياض اللوحة هو الموت يعني هذا أن الأبيض لا أشكال ولا ألوان؛ بل هو سديم من البياض، مثله مثل الليل بالنسبة لطفل؛ ما إن يطلع عليه نور الشمس الذي يضيء العالم من حوله؛ حتى تبدأ الحياة فيتبدى المشهد جلياً أمامه؛ ويرى هذا الطفل العصافير والأشجار والفلاحين في الحقل، أجل الحياة تبدأ مع هذا النور»

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن