أبناء الكار!
غسان كامل ونوس:
من المألوف أن يُحمّل الأديب شخوص نصوصه بعضاً من أفكاره، وقدراً من رغباته، وربّما نزواته؛ كما يمكن أن يدفعهم إلى ممارسة بعض ما يقوم به في الخفاء والعلن، أو ما يتمنّى أن يمارسه انتشاء أو انتقاماً؛ بصرف النظر عمّا إذا كان ذلك مغطّى شرعيّاً أو لا؛ فنحن في عالم أدبيّ، تتحرّك كائناته على الأوراق، وتحطّ لدى المتلقّي الذي يرغب في تلقّيها مختاراً، فيتفاعل معها، وفق حاله وبيئته وإمكانيّاته، وقابليّته ومستواه المعرفيّ، وخبرته في التعامل مع هذه العطاءات، أو العروض؛ فقد تبقى في ذاكرته، أو مَدَيات شعوره أو لا شعوره زمناً مسوَّغاً بالإعجاب والغبطة، أو الدهشة والحيرة، أو التشكيك والتساؤل؛ وصولاً إلى التأثّر والتأثير؛ وقد تتعثّر في العبور إلى أركان الإحساسات، حتّى لو طوّفتْ في أحيازها، بصرف التفكير –هنا- عن الأسباب التي قد تكون في الرسالة، أو العناصر التي تكمن في المنافذ والحدود المادّية والمعنويّة، فتعجز بدهيّاً عن الإقناع، والاهتمام –ربّما- حتّى لدى من يدرس أو يبحث، أو يصنّف؛ فلا يعلق منها ما يهمّ، وتسقط مع مؤلّفها في مستنقع الإهمال والتلاشي، بانتظار عمل آخر، وعوامل أخرى، وكائنات أخرى، ومحاولات النهوض من جديد.
ولعلّنا، لا نريد أن نغرق – هنا والآن على الأقلّ- في الجدل الذي يتناول علاقة المؤلّف بنصوصه موضوعاً وموقفاً، وشخوصِه خيالاً وتفكيراً، وتجربتِه الشخصيّة مساراتٍ ووقائع، وما قيل، ويقال في هذا الموضوع غير المبتوت بأمره، القابل للحديث القديم المتجدّد؛ مع علمنا بمحاولات الكاتب «الواعية» الابتعاد عن خصوصيّاته، أو تمويه بعض ملامحها، أو تحييد تفصيلاتها، وقد يناور في محاورها ومنعطفاتها ومحطّاتها، ويأخذ من هذا أو ذاك، ليكمل خصال سُعاته؛ فليس هذا مهمّاً، ولا إلى أي درجة ينجح في ذلك، أو يخيّبه «لاوعيه»، وتغريه القريبات المحسوسات والمدركات من عالمه الصغير، الذي قد «ينطوي فيه العالم الأكبر»! على الرغم من تعليقات القرّاء، والنقّاد، ومتابعاتهم، وتطفّلاتهم وإلحاحهم؛ بقدر ما يهمّ أن يُقنِعَ العمل من داخله، أو أن يكون منسجماً في مكوّناته، معبّراً في مبثوثاته؛ أو يسبّب النفور والقنوط والخيبة فجاجة أو ترهّلاً، أو انغلاقاً. لكنّ المثير أن يحدث العكس؛ فينسحب ما يكتب الأديب أو ما يوصّف، أو ما يمارس في فعل الكتابة من قطع وتوصيل، وتقنيع وتنكير، وتلوين، وتحوير، على حياته الخاصّة وسلوكه الشخصيّ، ومعاينته الذاتيّة؛ فتصبح ممارساته انعكاساً لحيوات شخوصه، أو أصداء لها، حتّى فيما تقول أو تتصرّف وفق سياقاتها، التي قد تفترق عن حياة مؤلّفها. ولا يتورّع الكاتب «أحياناً» أن يناور خارج الكتابة الأدبيّة، ويداور، ويخاتل في علاقاته، ويمثّل في عواطفه، ويغيّر في مواقفه، بشكل يجعله مثار تساؤل وتشكيك، وعرضة للملاحظات والإشارات والكلام الذي لا يريح، ولا يليق بالأديب ومكانته ورؤاه، ويسيء إلى كلّ ذلك؛ فيساعد من ليسوا من مريدي الأدب والمعرفة، ولا من جمهورهما حتى الصامت منه؛ ويقدّم لهم شواهدَ مجّانيّة لادّعاءاتهم المجهّلة، وأدلّةً مشهودة لدعاواهم الظلاميّة، ويضاعف من السوءات التي تلحق بمعشر الأدباء والمثقّفين، ويعطي الصائدين في الماء العكر أو الصافي، محترفين أو هواة، مسؤولين أو عامةً، مسوّغاتِ إهمالهم لهذه الشريحة المميّزة (أو المفترض أن تكون كذلك)، وتجاهلِهم لها، وقلّة التقدير والاحترام، ويُشيع عليها (جماعةً) مواصفات، تُضعف من ثقة الناس بها، وتحدّ من اصطفاء أبنائها قدواتٍ ورموزاً للخير والإنجاز، وتُشوّش على اختيارهم أو تَقَدمِهم لاستلام مهمّات، وتبوّء مراكز، وتحمّل مسؤوليّات في أي من ميادين العمل وساحات النشاط، ومنابر القول ومواقع الفعل؛ بحجّة عدم التماسك والشطح والتهتّك واللامسؤوليّة.. وهي حجج يراها أولو الأمر في ذلك مهمّة لتأكيد نظريّاتهم، وإبعاد منافسين جدّيّين عن حلبات السباق المشرعة دوماً، وتمرير خياراتهم، التي لا تبتعد عن الشخصانيّة، والأهوائية، والمصلحة الذاتيّة الآنيّة أو القادمة… تلك التي تُمعن في التجهيل والتضليل والتأسين؛ على الرغم من الحاجة القائمة دوماً إلى أصحاب الفكر، الحاجة التي تصبح ضرورةً آناءَ المحن، وبُعيدَ الكارثة؛ فإلى أي درجة نتحمّل نحن أبناءَ الكار وِزرَ ذلك، ولاسيما في الليلة الظلماء؟! ومتى نُفتقدُ؟!!