محمد عبد الكريم «أمير البُزُقْ: 1905 – 1989م»…في دمشق تعرَّفَ إلى فخري البارودي الذي قدَّمَهُ للمجتمعِ الدمشقيِّ
نضال حيدر:
«أشهدُ أنني عشتُ حياتي، وتمتَّعتُ بلذةِ العزفِ وسماعِ الموسيقا وإبداعها. أنا أغنى رجلٍ في التاريخ، لأنني ملكتُ قلوبَ الناسِ وعقولَهُمْ وأرواحهمْ، وهذا أعظمُ الثرواتِ. ولسوفَ يذكُرُني الناسُ كلَّما سمِعوا ألحاني، أو ذُكِرَ اسمي. أو كلَّما شاهدوا غجرياً «يتشيطنُ» على بُزُقِهِ ببراعة»… هذا ما قالَهُ الموسيقي السوري المبدع «عبد الكريم المرعي» الشَّهير بـ«أمير البُزُقْ» محمد عبد الكريم، المولود على الأرجح عامَ 1905م في حي »الخضر» الشعبي بمدينة حمص من أسرةٍ تعشقُ الموسيقا.
والدهُ.. أستاذهُ الأول في الموسيقا
في طفولتهِ؛ وإثرَ حادثٍ عنيفٍ، أصيب محمد عبد الكريم إصابة بليغةً، الأمر الذي سبَّبَ لهُ عاهةً دائمةً رافقتهُ طوال حياتهِ، وأدت إلى توقفِ نموِّ جذعه.
يُعدُّ والِدُهُ «علي مرعي» الذي كانَ عازِفاً على آلتي العود والبُزُقْ، أُستاذة الأول في الموسيقا، وبعدَ وفاتهِ تولى أخوهُ سليم رعايتهُ، فألحقهُ بالمدرسةِ الابتدائية، وكانَ يصحبهُ معهُ إلى الأفراحِ ليعزفَ على بُزُقِهْ، وبعدَ إتمامهِ دراستَهُ الابتدائيةَ، انتسبَ محمد عبد الكريم إلى «نادي الميماس» عازِفاً ضمنَ فرقتهِ الموسيقيَّة كما عزفَ ضمنَ الفرقِ الموسيقيةِ التي زارت مدينةَ حمص.
دمشق.. ولقب «أمير البُزُقْ»
في العاشرةِ من عُمرهِ انتقلَ محمد عبد الكريم إلى دمشق معَ والدتهِ، وهناك بدأَ العملَ عازفاً على البُزُق في «مقهى النوفرة» مرافقاً لفنانِ خيالِ الظل «الكراكوزاتي أبو شاكر» وفي دمشق تعرَّفَ أيضاً إلى فخري البارودي الذي قدَّمَهُ للمجتمعِ الدمشقيِّ.
تعودُ تسميتُهُ «أمير البُزُقْ» إلى الملِك فيصل ملكِ العراق الذي أُعجِبَ بعزفهِ أثناء حفلةٍ أقامها في باريس، وَوَصَفَهُ بأنَّهُ «أميرُ العزفِ على آلةِ البُزُقْ» فطلبَ مِنهُ محمد عبد الكريم »فرماناً» يشيرُ إلى ذلك فأصدرَ الملكُ أمراً ملكياً بتسميته أميراً لآلةِ البُزُقْ.
حلب: أولى الرحلات
تتلمذ «أمير البُزُقْ» على يدي «حسين محي الدين بعيون» عازف البُزُق الشهير، وأولى رحلاتهِ كانت إلى حلب، وعامَ 1925م زارَ القاهرةَ حيثُ تعرَّفَ إلى أقطابِ الموسيقا أمثال: «محمد القصبجي، زكريا أحمد، مُحمَّد عبد الوهاب».
عام 1927 سافر إلى ألمانيا بعد العرض المقدم من وكيل شركة «أوديون» للأسطوانات الموسيقية وهناك سجَّلَ «أمير البُزُقْ» خمس أسطوانات ضمَّت مجموعة من المقطوعات الموسيقية. ومن ألمانيا سافر إلى فرنسا التي أحيا فيها عدداً من الحفلات، حيثُ حازَ إعجاب الفرنسيين قبل العرب، ولم تطل إقامته في فرنسا، حيثُ غادرها إلى إيطاليا في العام نفسه، فأقام في روما ثم في نابولي، فميلانو عدداً من الحفلات، التي أثارت الكثير من الإعجاب بعزفه المبهر، وبالأخص عندما عزف على بُزُقِه ألحان «النابوليتان» الشعبية، التي أدمن الإيطاليون الاستماع إليها من «الماندولين والبانجو والغيتار» حتى لقبوه بـ«بغانيني البُزُقْ».
مواقف محرجة.. وطرائف
لا شك أن قِصَرُ قامةِ «أمير البُزُقْ» سبّبَ لهُ عدداً من المواقف المحرجة، غير أنه تجاوزها بتمرينه وعمله المتواصل والحثيث على آلة البُزُق، الذي أثمرَ إبداعاً أدهش الكثيرين، ففي إحدى السهراتِ قدَّمَ «أمير البُزُقْ» وصلة عزفٍ سِحرية كانت مِسْكَ الخِتَام أَبْكَتِ الحضورَ ثمَّ أضحَكتهُمْ ثمَّ جعلتهُم نياماً!!… ومن طرائف ما روي عنه أيضاً، أنه كان يتمرن بالعزف بأصابع قدميه على آلة البُزُقْ! وأنه وخلال إحدى الحفلات الموسيقية في بريطانيا وبعد أن استقبله الجمهور بالضحك والاستهزاء من مظهره، خلع «أمير البُزُقْ» حذاءه وأخذ يعزف بأصابع قدمه على البُزُقْ مقطوعة من التراث الموسيقي البريطاني، كما قيل إنه عزف النشيد الوطني البريطاني، ما دفع الحاضرين يقفون احتراماً لهُ ولإبداعه، ثم غادر المسرح ولم يرجع إليه إلا بعد اعتذار الجمهور.
طوَّرَ وجدَّدَ آلةَ البُزُقْ
كانَ «أميرُ البُزُقْ» مِنَ المعجبين بالموسيقا الغربية وقد طوَّرَ وجدَّدَ آلةَ البُزُقْ، وعن ذلك يقول: «هل سمعت بالمثل القائل: «وزاد في الطنبور نغماً»!؟ أنا قمت بذلك وأضفت إلى البُزُق وترين، وجعلت من أربطة البُزُقْ 38 بعد أن كانت 18 للتنويع في النّغم.. » ولم يقف «أمير البُزُقْ» في مساعيه التطويرية عند هذا الحد، بل استبدلَ «طاسة البُزُقْ» وجعلها من خشب «الموندرين» كما جدَّدَ بعقد البُزُقْ وأضاف إليه «زنداً ودساستين» كما أن لـ«أمير البُزُقْ» مقاماً خاصاً مسجّلاً باسمه يدعى «مريوما».
أسرع عازفي البُزق في العالم
يُعدُّ «أمير البُزُقْ» من أسرع عازفي البُزُقْ بالعالم، وقد تنافس مع العازف التركي الشهير والسريع جداً «شنشلار» وتفوق عليه، كذلك تُعدُّ معزوفتهُ «رقصةُ الشيطان» من أصعبِ وأسرعِ المعزوفاتِ على البُزُقْ، لِسرعتِهِا ورشاقتِهِا، وبناءِ جُمَلِها اللحنيةِ المعقدةِ، وقد استطاع من خلالها أن يعبِّرَ عن فيضِ طاقاتهِ الإبداعيةِ الخّلاقةِ؛ عزفاً وتلحيناً وتأليفاً موسيقياً، وقد لُقّب بعدها بـ«شيطان البُزُقْ».
أشهر أعمال «أمير البُزُقْ» الموسيقية كانت: «بين أشجار الصنوبر، رقصة الشيطان، تحت العريشة، ساعة الوداع، في قصور الأندلس، رقصة الحب، عروس الصحراء، آلام الطير، رقصة الصبايا، البنفسجة الذابلة، ليالي ديك الجن، حكاية عيون، وغيرها كثير».
سيرة حافلة وغياب مؤلم
كانَ محمد عبد الكريم أحد الأمراءِ الثلاثةِ: «أميرِ الشعرِ: أحمد شوقي، أميرِ الكَمَان: سامي الشوا، وأميرِ البُزُقْ: محمد عبد الكريم» وقد ساهم «أمير البُزُقْ» في تأسيس إذاعات «دمشق، القدس، الشرق الأدنى» وكان من أوائل من شاركوا في احتفالات الجلاء، وعند افتتاح إذاعة دمشق وضع شارتها الموسيقية، كما عمل في فرقتها الموسيقية، كما لحَّنَ أُغنياتٍ لمشاهيرِ المطربين والمطربات، أمثال: «سُعاد محمد، صالح عبد الحي، ماري عكاوي، فهد نجار، فايزة أحمد، ونجاح سلام، صباح فخري، ماري جبران، كروان، ليلى حلمي، محمد عبد المطلب، سهام رفقي» وغيرهم… الذين غنوا من ألحانه العديد من الأغنيات التي اشتهرت في حينها وجلها من الشعر، وأبرزها قصائد: «يا زهرة زانت أعالي البطاح، سعاد، قمر العاشق، آلام الطير، غرد على الأغصان»..
كما تُعدُّ أغنية «مظلومة يا ناس» التي لحنها للمطربة الكبيرة سعاد محمد واحدةً من أجمل الأغاني التي رددتها شفاه الناس سنوات طويلة، كذلك قدَّمَ للمطربة نجاح سلام أغنية «رقة حسنك وسمارك» التي أسهمت في شهرتها.. ومن أعماله الأخرى، أغنية «جارتي ليلى» التي وضعها للفنانة ماري عكاوي، وغنتها فيما بعد فايزة أحمد بصوتها.
في أواخرِ حياتهِ أصيب «أمير البُزُقْ» بمرضٍ نُقِلَ بسببهِ إلى مشفى الهلالِ الأحمرِ وتوفِّيَ في 30 كانونَ الثاني1989م وشيِّعَ إلى مثواه الأخير في جنازةٍ بسيطة، بعد حياةٍ حافلةٍ أنجزَ خلالها إرثاً إبداعياً وموسيقياً خالداً.