العقد الثقافي
| إسماعيل مروة
يتحدث المتحدثون عن العقد السياسي الذي يربط ما بين السلطات والمجتمعات، وعن العقد الاجتماعي الكبير بين أفراد المجتمع والضيق ما بين رجل وامرأة وأسرة، ويتحدثون عن شتى أنواع العقود، ولكنهم يتجاهلون العقد الثقافي، ولعلي لا أبالغ إن قلت: إن هذا العقد الثقافي هو أهم أنواع العقود مع أننا لا نلقي إليه بالاً، ويستحق منا هذا النوع مزيداً من الاهتمام، بحيث يتم ترتيب العقد الثقافي بين المثقف ومجتمعه، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر.
وعلى المثقفين، أو بصفة أوضح العاملين في الوسط الثقافي أن يدركوا تفاصيل عقدهم الثقافي، فهم أناس امتهنوا الثقافة، ومنها عاشوا، وربما أثروا، وربما حققوا نجومية لم يحققها نجوم السينما، ومن هنا فإن أول ما يترتب في العقد أن المثقف ليس مظلوماً، فهو يمارس مهنته، وإن حاول كثير من المثقفين أن يسبغوا على عملهم الثقافي صفات فضفاضة لمنحه المهابة والتوقير، وهذا بحد ذاته فعل غير صحيح، فالمثقف والعامل في الوسط الثقافي يأخذ من عمله جزاءه كأي صاحب مهنة، ولا يحق له أن يمنّ على الآخرين بثقافته ومعرفته، ولا أن يطلب من الآخرين توقيره، وإلا طلب المزين والحلاق من الناس تقديسه وهو الذي يظهرهم بحلة جميلة أمام الناس، وربما كان مظهرهم بعد الخروج من عنده أهم بكثير من الحقيقة!
ولا يحق للمثقف- إكراماً لنفسه- أن يوهم الناس بأنه صاحب رسالة، وبأنه يقوم بتنوير الناس وتثقيفهم، وبناء عليه يجب أن يأخذ مكانة مختلفة عنهم، وعليه أن يترك للآخرين وللناس أن يمنحوه التقدير المعنوي الذي يرونه مناسباً له، لذا عليه ألا يتبرم ويتأفف، وهو يرى نفسه شخصاً عادياً لدى شريحة من الناس! فهو لا يعنيهم كما يعني نفسه، ولا يشاركهم مكاسبه التي يكسبها!
وما من مثقف يمكن أن يدّعي أنه صاحب رسالة من أقدم العصور إلى اليوم! فالأنا هي التي تتحكم، وغرور المثقف عند ما يشيرون إليه هو الذي يقف وراء جهده، وإلا فبماذا نفسر احتفاء أحدهم برأي أو اختيار أو تحكيم أو تصنيف وإن كان خلبياً صنعه بنفسه أو صنعه مريدوه له، وها هو يطبل له ويعيد نشره والإشارة إليه كلما نسيه الناس، ليقول لهم إنه مثقف مهم! إن الأنا هي التي تحتفي، ولو سألناه عن المكافأة يقول: كرتونة، وربما ميدالية، وأغلبنا يضيف عبارة: لو رافقها ظرف مالي كان أهم من الكرتونة!
وفي هذه الأحاديث العلنية أو الجانبية دليل على أن الفعل الثقافي فردي يعود بالفائدة على أصحابه، ولو أدرك المثقفون حقيقة العقد الثقافي ما رأينا مثقفاً يفرح بصورته أكثر من جملته، ولا رأينا من يرى العالم يدور في فلكه وينتظر أن يتقيأ كلماته على الورق، أو ينتظر أن يدهمه بطلعته البهية على الشاشة! عدد كبير من الذين يمتهنون الثقافة يرسل رسائل لمعارفه على المحمول، أو يضع على التواصل الاجتماعي: تابعوني الساعة كذا.. وبعد الانتهاء يطلب رأيهم..!
أفهم أن يخبر المثقف أسرته أو من يحب، لأن ذلك من متممات الأنا والحب والعقد الثقافي الصحيح، لكن أن يطلب من الناس المتابعة فهذا أمر آخر يدخل في إطار العجب بالنفس، وعندما يصل إلى هذا الحد، ليس من حقه أن يوهم الناس أنه صاحب رسالة.
أحترم ذلك المثقف الذي يعرف حقيقة دوره، وبأن ملكاته ومعارفه وطبيعته دفعت به إلى العمل الثقافي، وبأنه ابن مهنة لا تختلف عن الحداد والنجار والطبال و…. وبأنه يعيش منها ويرتزق، وليس صحيحاً أن الفعل الثقافي أكثر نبلاً من البناء الذي يضم أسرنا وأهلنا ويسترنا! أو أفضل ممن يخيط لنا ليستر عيبنا ونتوءات أرواحنا وأجسادنا! وإن دخلنا إلى التفضيل فسنجد كل واحد منا يدافع عن مهنته ليظهر نبلها، ونصبح كأننا في حفل زجل وعتابا، والمبارزة بين الجهل والعلم، السيف والقلم، الطب والهندسة، وما شابه من موضوعات، وبراعة الزجّال هي التي قد تجعله قادراً على تفضيل الجهل على العلم، والقتل بالسيف على نور المعرفة! وقد شهدت مرات استطاع فيها الزجال ببراعته أن يدافع عن أمور لا يتفق عليها الناس!
فأنت مثقف لنفسك، وحزت شهاداتك لنفسك، وتثقفت لنفسك، ولأنك اخترت هذا الجانب مهنة لك، وربما لضعفك، ولأنك لا تجيد عملاً آخر، ولهذا ليس من حقك أن تفرض على الآخر توقيرك لأنك مثقف! فالحرف الذي تعمل فيه يكتسب نبله من توظيفك له، ولو ملأت كتب الأرض وأنت حاقد ومريض وتافه فلن تصل إلى التوقير الذي تبتغيه!
إنه العقد الثقافي الذي يجب أن نقرّ به ونعترف، وإن فعلنا فإن الثقافة ستأخذ دورها وظيفة ومهنة، ولن تبقى مصدر أبهة ووجاهة فارغة.
العقد الثقافي الذي ينصف المبدع والمثقف، ويجعله فاعلاً ومتفاعلاً مع مكونات المجتمع عامة، ولا يبقيه في عزلة وابتعاد، وينفي عنه صفة الفوقية والأنانية، وهي جزء من الحقيقة لا يمكن للمثقف أو العامل في الشأن الثقافي أن ينفيها! ولتقريب الشبه، فالأمر كما عالم الدين ورجل الدين، شخص درس وتدرج، ويحيا حياته اعتماداً على علمه الديني، لكنه يزيد فوق ذلك من رغبته في التبجيل بكل شكل، فهو يمارس مهنة، ويشعرك بالتفضل عليه: وما عليك إلا أن تقف باحترام، وربما كنت مدعواً لتقبيل يديه لأنه في هذه المكانة! مع أنه يتكسب وزيادة من هذا العلم، إلا أن ارتباطها بالنفيس من الفكر جعله يعطي نفسه مكانة ليست له، وليس من حقه أن يفرضها عليك، وخاصة أنه يتقاضى منك مقابل ما يقدمه من خدمات جليلة دينية أو دنيوية حسب اعتقاد الإنسان الذي يتوجه إليه عالم الدين ورجله.
العقد الثقافي لم ندركه اجتماعياً ومجتمعياً، لذلك وضع المثقف نفسه في مكانة خاصة، وعدّ نفسه نخبوياً في حياته وتوجهاته، ورأى أن مهنته التي يعتاش منها غير شكل، فهي راقية ومهمة و…. و….! والأهم أنه صدّق نفسه، وقوبل من السلطة التي فرحت بنرجسيته، وأقنعته أنه الأهم، وذلك من خلال ما أعطته من ميزات ومكاسب ومواقع، فتحول العقد الذي نسأل عنه من عقد ثقافي بين المجتمع والمثقف، ليمارس دوره الحقيقي فيه، تحول إلى عقد ثقافي بين السلطة والوهم الثقافي لدى هذا المثقف، وبما أن الثقافة فعل حياتي فيه اكتساب فقد صار المثقف مكتسباً ومستنصباً، وتحولت الثقافة إلى كسب وطريق وصول، بدل أن تكون كسباً وطريق حياة..!
فهل يحق لمثقف درس ليصبح مسؤولاً أن يعد نفسه مثقفاً؟!
هل تقبل سياسته الثقافية؟
هل يتنكر لصانعه؟ إنه عقد لا روح فيه ولاثقافة.