مؤتمر الكتاب السنوي بحضور الدكتورة نجاح العطار … الحرب على سورية تجربة كبرى محنة دامية … وموجعة تقدم للكاتب موضوعات غنية تتحدى الموهبة
| د. ناديا خوست
اجتماع مؤتمر الكتاب في ظروف الحرب على سورية، بعد التفجيرات في الست زينب وفي حمص، شاهد على صلابة الحياة السورية. أضاف روحا إلى المؤتمر حضور الدكتورة نجاح العطار. ذكّرنا بزمن رحب تلاقى فيه الأمن الغذائي بالأمن الثقافي والأمن الوطني، كان فيه الشعار «الثقافة هي الحاجة العليا للإنسانية»، وكنا نعود من الأمسيات الموسيقية في إيبلا في منتصف الليل عابرين غوطة آمنة!
مسار اتحاد الكتاب
طمأننا الدكتور خلف المفتاح على الثوابت السورية التي عجز الحقد السعودي والعثماني عن اقتلاعها. واستعاد لنا رئيس اتحاد الكتاب ما احتضنته سورية من شواهد حضارية. وبدا أن «التنوير» هو الشعار الذي يرسم نهج الفترة القادمة، بدلاً من الشعارات التفصيلية عن مقاومة الصهيونية وواجبات الكتاب الوطنية. لكننا افتقدنا ما تعودناه في مؤتمرات اتحاد الكتاب السابقة: أن تكون في أيدينا التقارير التي سنناقشها، فالنص هو المعتمد عادة لفحص العمل، واستبعاد الارتجال.
تميز اتحاد الكتاب بتنظيم يؤكد تقاليد مؤسسة ثقافية. فبعد الجزء الاحتفالي يتناول الكتّاب عادة التقرير السنوي الذي يسجل ما أنجز ويقترح خطة العمل. يعرضون آراءهم في المسائل التي تشغل المجتمع والثقافة، يناقشون الوضع السياسي، ويستفيضون في ملاحظاتهم ومقترحاتهم، حاملين واجب الكتاب في رصد الحياة العامة وموقع الكتاب فيها. هكذا عبّرنا في المؤتمرات عن حذرنا من مكافأة الطفيلية التي نهبت القطاع العام باقتصاد السوق، وعن تجاوزات المحافظين على هوية المدينة العربية، وأهمية الآثار والأبنية التاريخية كعمق تاريخي في الصراع العربي الصهيوني، ونبهنا إلى الفساد، وإلى الاختراق الصهيوني وجوائزه وأشخاصه. فصل المؤتمر كتابا التقوا بإسرائيليين أو كتبوا في منحى صهيوني. وصاغ وثيقة الشرف التي تحظّر العلاقة بأية مؤسسة إسرائيلية أو صهيونية، وكسب عليها توقيع شخصيات ومنظمات عربية. اخترق الاتحاد حصار العراق فجمع سبعين كاتبا عربيا قدم لهم الرئيس بشار الأسد طائرة خاصة نقلتهم إلى بغداد حيث عقدوا اجتماعهم. وكان اتحاد الكتاب أول منظمة زارت جنوب لبنان بعد تحريره سنة 2000. وخلال الحرب على سورية حمى الاتحاد وحدته، على الرغم من سعي جدّي إلى «الانشقاق»، وتلفيق منظمة كتاب مغتربة.
جسد مسار الاتحاد الالتزام بالثقافة الوطنية التي تعادي الصهيونية والتدخل الغربي الاستعماري وتدافع عن حرية الفكر والتنوع تحت سقف الثوابت الوطنية. التزم بقضية فلسطين، وتضامن مع أي عربي مهدد. لذلك يجد من يتصفح دوريات الاتحاد أبحاثاً ومقالات عن الوهابية، وعن صياغة نخبة ثقافية شرق أوسطية، وعن تحضير الحرب على سورية.
المسار اللاحق
هذا النهج، إذاً، وطني منفتح، مهما كانت الكفاءة في التعبير عنه، ومهما كانت عواطفنا الشخصية نحو المشاركين في إدارته. لذلك يبدو لنا أن وضع شعار «التنوير» كأنه عنوان دورة انتخابية، جميل لكنه متسرع. أولاً، لأن اتحاد الكتاب لم يكن أبدا في ظلام يجب أن نخرجه منه إلى التنور. ثانياً، لأن المزاج العام يتوجس من الشعارات الزاهية، بعد حرب قاسية خربت سورية باسم الحرية والديمقراطية. المعيار هو العمل. مثلاً وعد المؤتمر الماضي، في فورة حماسة غنائية، بنشر عشرة كتب عن الحرب. مع أننا نعرف أن ذلك لا يتحقق في ظروف الفراغ الفكري. ثالثاً، يتصل «التنوير» بمرحلة تاريخية حملها متنورون كبار فلاسفة وشعراء، وعبّر عن مجتمع ينتقل من مرحلة إلى أخرى. فهل ينطبق ذلك على الواقع السوري؟
بل تختلف ظروفنا عن المرحلة التاريخية التي استولدت «التنوير». فقد لاحظ الرئيس بشار الأسد، وبين يديه المعلومات الدقيقة الشاملة، أننا نعاني من الفراغ الفكري. لا يعني الفراغ الفكري فقط غياب حمالي مشروع التنوير، بل أيضاً إن المسائل التي يضعها الواقع لا تجد تعبيراً فنياً وفكرياً وموسيقياً وشعرياً عنها! يعني أن أبطال المطارات المحاصرة المحررة، والمقاتلين، والشعب السوري الشجاع الصابر، لا يجد نشيداً ولا أغنية ولا قصة ولا رواية تروي روحه! من الناشط في هذا الفراغ الفكري؟ الفكر التكفيري! الفكر الذي قال الرئيس الأسد إنه لا يهزم بالعمل العسكري فقط، بل بالفكر. فأين الأبحاث التي تواجهه؟ ألا نلاحظ أن السياسي والمواطن يتقدمان اليوم على المثقف؟
يجب أن تناسب الشعارات الحاجات الحقيقية التي تقترحها مرحلة تاريخية. كل مايوضع خارج هذه الحاجات أو بديلاً منها يضيّع الزمن، كما ضيعه من تاه سنوات في موضوعات الحداثة وما بعد الحداثة والبنيوية والتفكيكية وموت المؤلف ونقد النقد. ولنتذكر وصية صهيونية تعترف بأنها تبتكر للشعوب غير اليهودية، الغوييم، موضوعات تشغلها عن المسائل الحقيقية، فإذا اهترأت ابتكرت لها بدائل تهدر الزمن!
نستنتج أن المسألة الأولى التي يفترض أن تشغل الكتاب والمثقفين اليوم هي أولا بحث مشكلة الفراغ الفكري. ما أسبابه؟ كيف الخروج منه؟ ما سبب عزوف الجمهور عن الأمسيات الثقافية والندوات؟ وفي السياق: لماذا لا يرتقي الإنتاج الفكري إلى مستوى الحاجات؟ لماذا ينشغل الكتّاب بموضوعات ملفقة بدلاً من تناول موضوعات الحياة الفوارة التي تقدمها مأساة الحرب على سورية؟ لدينا بنية تحتية ثقافية فكيف نجعلها فاعلة وحيوية؟
الحرب على سورية تجربة كبرى، محنة دامية وموجعة، تقدم للكاتب موضوعات غنية تتحدى الموهبة. لنتذكر أن أدب المقاومة السوفييتية ولد على جمر الحرب العالمية الثانية. من قلب النار كتب سيمونوف «انتظريني وسأعود»، وكتب الشعراء القصائد التي أصبحت أغنيات عامة، واستلهم الروائيون شخصيات رواياتهم التي أصبحت كنوزاً عالمية. ينتظر بعضنا نضج ما يشعر به؟ فليكن! لكن لماذا يكتب الباحث الفرنسي فيرنوشيه عن الوهابية، ويصدر الباحث الفرنسي ايزامبير كتاباً عن العصابات المسلحة الإجرامية في سورية، ويتحدث السياسيون الغربيون عن خطر الوهابية، ويبحث الكونغرس في جلسة استماع، فكر المجموعات الإرهابية الوحشي الذي تنفق عليه السعودية، ولا يتناول باحثون سوريون خطر الوهابية؟ نستنتج أن الشعار المناسب للواقع بدلا من التنوير: كشف الفكر الوهابي! تطابق الفكر التكفيري والفكر الصهيوني! علاقة العولمة الاستعمارية بتأسيس خلافة إسلامية داعشية.. إلخ.
يجب ألا نستخف أبداً بالمنظومات الفكرية! فالمشروع السياسي يسددها في التعمير أو التخريب. لا يزوّد الإرهابيون الذين يفجرون الأضرحة وينهبون الآثار ويذبحون الأطفال بالمال والسلاح السعودي فقط، بل بمنظومة فكرية. أمامنا فيلم موجع يعرض أباً يودع ابنه في سيارة سيفجرها. نرى وجه الطفل الصافي المستسلم للإيمان بأنه يمشي في طريق الجهاد! لا يخطر له بأنه قاتل ومنتحر، ولا يبالي بهول الآلام التي سيسببها! لدينا وقائع أخرى عن إخوة وآباء وأزواج قدموا نساءهم لجهاد النكاح، وشابات غربيات وعربيات التحقن بالمنظمات الإرهابية ليمارسن جهاد النكاح. تربي المنظومة الفكرية الوهابية مجرمين، ومنحطين، ومجانين. لذلك يشعر كثير من المفكرين والسياسيين الغربيين بخطرها. يزيد الحذر والتوجس أنها تعمل في ظروف أزمة اقتصادية عالمية أغلقت أفق العمل والزواج أمام الشباب، وغاب فيها مشروع العدالة الاجتماعية وحمالوها اليساريون. فتقدم المال السعودي ومنظومته الفكرية وأوهمهم بأنهم سيغيرون العالم، هيأهم فكرياً وروحياً وجند منهم جيشاً عالمياً. هذه إذاً مساحة عمل فكري واسعة، تنتظر الكتاب والباحثين!
التنظيم تعبير عن الحاجات
ستواجه سورية بعد الحرب مشكلات كبرى اقتصادية ووجدانية وأخلاقية وصحية. لم نحص بعد الأرامل، والمغتصبات، والأيتام، والمشردين. ذكرت أوروبول أن عشرة آلاف طفل اختفوا في أوروبا بعد تسجيل دخولهم. وعبّر بريان دونالد رئيس الشرطة الأوروبية، عن خشيته من بنية إجرامية أوروبية مرتبطة بتنظيم هجرة السوريين إلى أوروبا، قد تكون استغلت أولئك الأطفال في تجارة الأعضاء البشرية والدعارة. في سورية ولبنان كُشفت عصابات تستغل الأطفال، وعصابات تنشر المخدرات، وعصابات تدير شبكات التسول. استولدت الحرب مشاكل اجتماعية، يفترض أن تشغل الكتاب السوريين.
يتصل بهذا واجب قومي على الاتحاد أن يحمله. هو دعم الانتفاضة الفلسطينية الشعبية التي ترد الآن على من سلم مفاتيح فلسطين للخليج وتركيا، ومن يتعاون مع العدو، ومن يغمس الفلسطينيين في المشاكل العربية. تضمنت أهداف الحرب على سورية، تهجير الفلسطينيين وتوطينهم. وقد هجر الآلاف منهم إلى ألمانيا وفرض عليهم التنازل عن حق العودة. لذلك تفرض الثوابت القومية التي جعلت سورية حضن القضية الفلسطينية، منع جميع أشكال التوطين. ومنها اندماج كتلة الكتاب الفلسطينيين في اتحاد الكتاب وغرقهم في المشاكل السورية والمنافسات الانتخابية. واجب اتحاد الكتاب أن يساعدهم على تأسيس منظمة كتاب مستقلة مكرسة لقضايا الوطن المحتل، تنشغل بحاجات الشعب الفلسطيني. يجب ألا تحجب عنا هذه الضرورة عواطفنا، أو الاسترخاء على ما تعودناه، أو مكاسب الاتحاد. يعاد النظر في أشكال التنظيم لتلبي مسائل الزمن، ويفترض أن تفحص هذه المسألة.
التراث الحضاري
كانت كلمة زميلنا الأستاذ الشاعر عصام خليل، وزير الثقافة، موجزة ومسددة. فقد كان عضواً في المكتب التنفيذي، ورئيس تحرير الأسبوع الأدبي، عرف بالملامسة نهج اتحاد الكتاب، وشارك في أيام المد والجزر، وواجه من أصبحوا «معارضين» خارجيين وكان يظلّهم عبد الحليم خدام. خلال ذلك تابع جهد اتحاد الكتاب لحماية الأبنية التاريخية والآثار الوطنية. ولابد أنه سمع رياض نعسان آغا يقول إنه لن ينتظر مئة سنة لترميم ميناء عمريت الفينيقي، وأجاز فوقه مشاريع سكنية وسياحية. شارك الأستاذ عصام خليل في أمسية أدبية في بيت عربي في سوق ساروجا، وفي محطة خربة غزالة التاريخية. لدى اتحاد الكتاب إذاً فرصة فضّية لمتابعة مساره السابق في الدفاع عن التراث الوطني. وقد شاهدنا جميعاً هول العدوان على الآثار السورية، والحقد الوهابي على عراقتها الحضارية. فأصبحت حماية التراث الوطني المعماري والتاريخي من ضرورات مواجهة الوهابية.
وبعد، هاجمنا العدو قبل الحرب على سورية بالاختراق الثقافي. روّج الجوائز على رواية الجنس، لاستبعاد الموضوعات الاجتماعية والوطنية من الأدب. صنع الفراغ الثقافي بالمسلسلات التلفزيونية التي تسوّق لحم الصبايا وقتال الحارات. جائزة علوية صبح، كاتبة الجنس، شاهد على هول الاختراق. في الوقت نفسه مولت السعودية المؤسسات التي تنشر الفكر الوهابي في العالم، من إفريقية إلى القفقاس والصين وآسية وأوروبا. يفترض هذا الخطر ألا نضيّع لحظة من الزمن، كي نتجاوز الفراغ الفكري والغنائية الإنشائية، ونواجه خطر الوهابية والاختراق الثقافي الصهيوني.