مملكة القلاقل
| د. ربيع الدبس
نقطة التحول التي تشهدها العلاقات السعودية-اللبنانية تتجاوز مستوى العلاقة الثنائية بين دولتين عربيتين، لِتَبْلُغ مستوى الصراع الإقليمي في منطقة افترَسَ الاستعمار حيويتها لقرون، وما زالت ذهنية الهيمنة والاستئثار تراود بعض دولها المتنطحة لأدوارٍ أكبر منها، أدوار يتملّك ممثليها الحقدُ، ويُعمي أبصارَهم.
ضِيقُ الأفق القاتل وفقدانُ البوصلة
إن كمّاً مشروعاً من الأسئلة يطرح نفسه إزاء التطور الدرامي في السلوك السعودي، برغم أنه لم يفاجئ قُرّاءَ السياسة الرائين. من تلك الأسئلة: ما الذي دفع الرياض إلى مصادرة مليارات موعودة للبنان وبالتحديد لجيشه؟ولماذا جرى فجأة تحويلها إلى السودان كما سُرّب إلى وسائل الإعلام؟ هل المسألة متصلة فعلاً بتراجع أسعار النفط وبالخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تتكبدها الرياض في اليمن، أم أنها متصلة بالأولويات السياسية الكيدية؟ هل السخط الحجازي مرتبط باعتقال أحد قراصنة «الكبتاغون» الذي يمنحه الإرُث القَبَليّ صفة أمير؟هل استُبْدِلتْ الهِبة الافتراضية بهَبَّة تصعيدية قد تصل إلى التفجير؟ هل السعودية ضد الإرهاب فعلاً وقولاً أم أنها راعيته التاريخية؟ وهل يملك النظام السعودي صلاحية أخلاقية للانتقام من مواطنين لبنانيين ناجحين، فقط لأنهم مقيمون في السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي؟ هل يصدّق الناس أن النظام السعودي هو معيار العروبة ليمنح شهادة الولاء العربي أو ليحجبها عن سورية أو عن لبنان ومؤيدي مقاومتهما المباركة؟ كيف إذاً يبيح لنفسه أن يمنع عن اللبنانيين العاديين حق تحويل أموال نالوها بعرق جباههم إلى عائلاتهم في لبنان؟
إن العرب جميعاً- سواء اعترفوا أم أنكروا- يدركون جيداً دور الوافدين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين الإيجابي والفاعل في تطوير دول مجلس التعاون الخليجي، وهؤلاء لا يتمنّون لشعوب تلك الدول سوى المودة والتقدير والغد المشرق. كما أن العرب يدركون أن العروبة انتماء ثقافي – مدنيّ نما في الحواضر لا في الصحراء، بدءاً من قلب العروبة النابض المعروف مكانه ودوره وخفقه الحضاري على مدى الأزمان، كما يَعْلمون عِلْم اليقين أن الإجماع العربي لا يتحقق من دون عاصمتَيّ الأمويين والعباسيين وعاصمة الشرائع. إن اتفاق الطائف الذي تتغنى به الرياض قد نصَّ بوضوح مُفحِم على العلاقات المميزة بين بيروت ودمشق، وكل تجاهُلٍ لهذه الحقيقة يبقى زعماً لا يصدقه أحد بمن فيهم انتهازيّو السياسة المتظاهرون بالتصديق، إن على مملكة القلاقل أن تضع حداً لاستثمارها الفاشل في أبواقها الإعلامية وأوركستراها السياسية. فلبنان وسورية ليسا ساحة للتقاذف الفضائي، ولبنان ليس محافظة سعودية لتُفرَض عليه المواقف، حتى إذا رفض الانصياع يصبح عرضة للإجراءات الانتقامية التي يسمونها عقوبات. ثم إن القوانين الدولية لا تسمح لدولة تفتقر إلى الآليات الدستورية والثقافة الديمقرطية أن تُملي على الآخرين أين يتدخلون وأين ينكفئون. أفلا يكفي السعوديةَ عدوانها على اليمن، وتدخلاتها في سورية والبحرين والأردن والعراق لتفقد صدقيتها في مجال التدخل الخارجي بل في مأساة حقوق الإنسان داخل أراضيها؟
أغْلبُ الظن أن النظام السعودي الحاقد لم يفقه بعد أن لبنان الحقيقي، وسورية الأصيلة، والعرب الأُصَلاء يأبون أن تباع فلسطين باسم أي مبادرة عربية، ويرفضون نسيان حق العودة مهما تكُنِ الخلفيات والذرائع، كما أنهم سيحاربون التطبيع الذي يمارسه بعض «العروبيين المُفْلِسين» مع العدو الإسرائيلي حتى النهاية… المتماهية بحرية.
الحق الذي لا يفهمه إلا الأحرار
إن لبنان المقاوم، لبنان السيد الحر المستقل، يرفض الاستجداء والانبطاح والزحفطة، أولاً لأن العزّ توءم روحه، وثانياً لأن مقاومته متعلقة بشرفه القومي لأنها مرتبطة بانتمائه وبجيشه وشعبه، أي بكرامته الكلية، أما القلاقل التي تُطلّ برؤوسها الجديدة، فندعو شعبنا في لبنان على اختلاف مواقعه السياسية والمذهبية، إلى وأدها في المهد، فلا يكون لها بعد اليوم طُعماً أو فريسة. اللهمّ فاشْهد أننا بلّغْنا.