الوسطية والاعتدال في الفكر العربي.. أنموذج أمين الريحاني (1876-1940)
ألقى الدكتور أنور الخطيب عضو مجمع اللغة العربيّة، محاضرة الوسطيّة والاعتدال في الفكر العربي، استعرض فيها ما قيل قبل ست عشرة ومئة سنة على لسان مراسل المجمع العلمي العربي بدمشق أمين الريحاني ذائع الصيت في لبنان الشقيق أيضاً. ومنها اقتطفنا ما يلي:
شرحُ موضوعِ التساهل
يقولُ الريحاني: موضوعي مُتشعبُ الطُّرق… جليلُ الشأن… جزيلُ الفائدة… ذو أهمية بعيدةِ الأثر في المجتمع الإنساني. هو الموضوعُ الذي اختلفَ فيه الناسُ في العصورِ المتوسطة حين كان يدافِعُ عنه العلماءُ والفلاسفةُ والأحرار…. ومُعارِضوه كلَّ المعارضَة هم الرؤساءُ والأمراءُ والملوك، وكلَّ من فضَّلَ قطعةَ معدنٍ تُدعى تاجًا على ذلك الشيءِ الإلهي الخفيِّ الذي يسمى ضميرًا. يتابع الريحاني فيقول: التساهلُ هو التسامحُ بوجودِ ما يخالفُك وهذا تحديدٌ عام…. أمّا التحديدُ الذي يأتي بالمراد: التساهلِ الديني فَهُوَ الاعتبارُ والاحترامُ الواجبُ علينا إظهارُه نحوَ المذاهبِ المتمسِّكِ بها آخرونَ من أبناءِ جنسِنا… ولو كانت هذه المذاهبُ مناقضةً لمذاهِبِنا… التساهلُ غيرُ مطلوب في الأمور الدينيةِ وحدَها… بل في كل الأمور التي تطرأُ على عقولِ البشر… ويعملُ بها الكبارُ والصغار… لا تَستطيعُ أن تَدخلَ هذا البابَ (بابَ التساهلْ) دونَ أن نَطْرُقَ بابًا آخر(بابَ التعصُّب).
شرحُ مفهومِ التعصب
التساهلُ نَجَمَ عنِ التعصب… وهاتانِ الكلمتانِ ضِدَّان… وهما من مَثنويات الطبيعة… كالنورِ والظلمة… والخيرِ والشر… والعدلِ والظلم،… (والحياةِ والموت…) فلولا أَحَدُهما ما كان الآخر… فالتعصب إذاً وَلَدُ التساهل… والتساهلُ وَلَدُ السلام… والسلامُ وَلَدُ النجاح… والنجاحُ وَلَدُ السعادة… كل تعصّبٍ يَستوجبُ التساهل… فالتساهلُ هو الابنُ والتعصبُ هو الأب… وليس في العائلةِ البشريةِ بِرُمَّتِها أبٌ وابنٌ غيرُ منسجمينِ إلا هذين الاثنين… فاسْتَعَرَتْ بينهما نيرانُ الفِتَن… وحَمِيَ وطيسُ القتالِ في القرونِ الوسطى… وكانَ الفوزُ أحياناً لهذا… وأحياناً لذاك حتى دَخَلَ المتحاربونَ القرنَ التاسعَ عَشَر فأخذ التساهلُ ينتصرُ على التعصب… وأخيراً شقَّ قلبَه بخِنْجرِ العدل، وفَرَاهُ بسيفِ الرحمة… مات التعصب.
بَعْثُ روحِ التعصبِ بقَالَبٍ سياسيّ
ولكنْ واأسفاه كان موتُ التعصبِ إلى حين… أي أن روحَه عند خُروجها من جسمِهِ الديني… تقمصَّتْ بالجسمِ السياسيّ… فعوضًا عن التعصبِ الديني الذي سَوَّدَ صفحاتِ التاريخِ في الأجيالِ الغابرة… ابتُلينا في أيامنا بتعصبٍ سياسيٍّ أو دوليٍّ إذا شئتمْ!… لم نَرَ له مثلاً في التاريخِ بأسْرِه….. فما هذه الحروبُ التي تعلِنُها الدولُ الأوروبيةُ على الشعوبِ الضعيفةِ والصغيرةِ إلا نتيجةُ التعصبِ الدوليِّ، نتيجةُ الفِكرِ الفاسدِ الذي تتمسكُ به الدولُ الكبرى…. فإنكلترا تَعْتقدُ نفسها أصلَحَ مِن فرنسا وفرنسا أرفعَ وأعظمَ من ألمانيا وألمانيا أقوى وأحسنَ من الاثنتين… إلخ.
صورٌ من حركاتِ التعصبِ السياسيّ
وإذا راقبنا حركاتِ الدولِ ودرسْنا سياسَتَها وكشفْنا الحجابَ عن خفاياها واستعرضنا الحروبَ العديدةَ التي تهدمُ هيكلَ المجتمعِ الإنساني وقفنا حَيارى نتساءَل، أحقًا نحنُ في القرنِ التاسِعَ عَشَر، قرنِ التمدنِ والنورِ والمبادئِ الديمقراطيةِ والاشتراكيةِ والرحمةِ المسيحية؟ أحقًا نحنُ على بابِ القرنِ العشرين؟… التساهلُ الديني يشملُ الآن الدولَ الأوروبيةَ بمعاملاتِها بعضِها مع بعض… ولكنه لا يشملُ الشعوبَ التي يدعوها الأوروبيونَ متوحشة.
عندنا ما هو أقبحُ من التعصب
ويتابع الريحاني محاضرته قائلاً: وعندنا شيء أقبحُ من الاضطهادِ المكشوفِ وأضرُّ من الحروب. عندنا السياسةُ الِّسرِّيةُ والأيدي الخَفِية. فكلُّ هذه المنكراتِ تتجهُ إلى غرضٍ واحد وهي أكبرُ باعثٍ على ابتعادِنا وانقسامِنا ومعاداةِ بعضِنا لبعض.
إقحام الدّين في كل مَنهج
لقد أَخَذَ الدِّينُ منا كُلَّ مَأخَذ، فَنَخْلِطُهُ بكلِّ أشغالِنا ونَتَّخِذُهُ حُجَّةً بكلِّ أعمالنا. فالتجارةُ عندنا دينية…. والجمعياتُ دينية….. والنُّزُلُ دينية والبِقالَة دينية وقِسْ على ذلك….. وهذا يبعثنا على الانقسام.
متى تزولُ الشِّقاقاتُ الدينيةُ؟
التساهلُ أيها الشيوخُ الأجلّاء… التساهلّ أيّها الشُّبانُ الناهضون… التساهلُ أيّها الصحفيونَ والأطباء والتجار. التساهلُ أيّها السوريونَ… أَقترحُ على جرائدِنا العربية، في الثغرِ خصوصاً وفي العالَمِ العربِّي عمومًا- إذا كان صوتي هذا الضعيفُ يصلُ إليهم- أن تَنشرَ إعلانًا بأحرفٍ ضخمةٍ كبيرة عن التساهلِ الديني وأنه يُعطى بلا ثمن… ومن أرادَ أن يَقتنِيَهُ ويعملَ به فَلْيقرعْ بابَ ضميرِه فهوَ البائعُ وهو الشاري، وهو الواهبُ وهو الموهوب.
التساهل! لو كان لي ألف لسانٍ وتكلمتُ من الآن إلى يومِ الدينِ لما عَييتُ من تَردادِ هذه اللفظةِ العذبةِ السهلةِ اللطيفة. لفظةٍ كَرِهتْها القرونُ الوسطى وكَلِف بها القرنُ التاسَعَ عَشَر. لفظةٍ عززتْها الجمهوريةُ في هذا الجيل. لفظةٍ انفتحتء لها قلوبُ المتمدنينَ المخلصينَ لأبناءِ جنسِهِم وتأهلتْ بها الضمائرُ الحرّةُ والعقولُ الصحيحة.
التساهلُ في الكتبِ السماوية
التساهلُ معنىً أصيلٌ لا ينكرهُ الإنجيلُ ولا القرآن.
((من لَطَمكَ على خَدِّكَ الأيمن فحوِّلْ له الأيسر. من أرادَ أن يُخاصِمكَ ويأخذَ ثوبَك فَدَعْ له رداءَكَ أيضاً. من سَخَّرَكَ ميلًا فَسِرْ معه اثنين)) (متى65و40و41)
((إن اللـه لا يحُابي بالوجوه فكلُّ رَجلٍ من أي أمةٍ كان يصنعُ الخيرَ ويَكْرهُ الشر فهو مقبولٌ عند الله)). (بطرس الرسول).
((اِفْعَلوا بالغَيْر ما تريدونَ أن يَفعَلَه الغَيرُ بِكُم)) وهذه الآية مُنْزَلَة. هي الآيةُ الذهبيةُ الفلسفيةُ. هي كلُّ الدينِ وكلُّ الأدبِ وكلُّ الشريعةِ وكلُّ العدلِ وكلُّ الفضيلة.
((إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ باللهِ واليومِ الآخرِ وعَمِلَ صالحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُم عندَ رَبِّهم ولا خَوفٌ عليهِم ولا هُم يحزنون)) (سورة البقرة).
((من أسلمَ وجهَهُ لله وهو مُحسِنْ فَلَه أَجْرُهُ عندَ رَبِّهِ ولا خوفٌ عليهِم ولا هُمْ يحزنون)) (سورة هود).
من أسلمَ وجهَهُ لله وهو مُحسِنْ (ماقال وهو مسلم أو مسيحي) فَلَهُ أجرهُ عندَ ربِّه ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. ما أجملَ هذه الآيةَ القرآنيةَ وما أشرفَ تلكَ الآيةَ الإنجيليةَ التي مَرَّ ذكرها.
إن هاتين الآيتين ذهبيتان عظيمتان. إني أَهَبُكُم كلَّ الكُتبِ المقدسةِ بهاتين الآيتين.
((اِدفْع بالتي هي أحسن السِّيئة)) (سورة المؤمنون) أليس هذا هو التساهل؟!
((لا تُجادلوا أهلَ الكتابِ إلا بالتي هي أحسن)) (سورة العنكبوت) أفي هذه شيء من التعصب؟
التساهلُ هو الطريقُ وهو الحقُّ وهو الحياةُ وهو روحُ الله. هو أول درجةٍ في سُلَّمِ العُمران وآخرها. هو الألف وهو الياء.
التساهلُ هو الباب. ومَنْ يَدخُلْ فيه لا يَهلِكْ. فَلْندخُلْ فَلْندخُلْ!