كيف نتعلّم؟
د. نبيل طعمة
طلب عمرو بن العاص أمير المؤمنين في مصر من أهل القدس تسليمه مفاتيحها، فكان رد قساوستها المسؤولين عنها، أننا لن نسلّم المفاتيح إلا لشخصٍ، وردت مواصفاته في كتبنا، فكتب في شأن ذلك إلى خليفة رسول الله عمر بن الخطاب، فهم الرسالة، وأصرّ أن يذهب بشخصه إلى القدس، وكان له مرافق، فاختار جملاً واحداً، ذهبا عليه من مكة إلى القدس، كان رأي الخليفة، بأن يتناوب هو والحادي على الجمل، أولاً خشية الإنفاق من بيت مال المسلمين على جمل ثانٍ، وثانياً احتراماً وتواضعاً من هذه الشخصية، وكان أن اتفقا على التناوب طوال المسير، وعند أبواب القدس، يركب الخليفة، ويسير المرافق له داخلاً، وتوافق عند دخوله للقدس أن كان دور المرافق، فأركبه، وقاد الجمل بنفسه، وكانت الأرض وحلةً، فنزع خفيه، وتأبطهما، وسار في الوحل، وإذا بالقساوسة ينتظرونه عند أبوابها، كان عددهم سبعة عشر قساً، تشاوروا فيما بينهم، وتقدموا إليه، وإذا بثوبه سبع عشرة رقعة، فقال: والله نسلّم له المفاتيح، لأنه رجل عصره، فالتواضع والاحترام بين الراعي والرعية، جسد لهم إنسانية الإنسان، فأمنوا له، وكان له ما أراد.
نصل إلى عصر صلاح الدين الأيوبي، حيث كان رقيق المطلع، نحيل الجسد، حتى إن المرض لم يفارقه طوال عمره، وللعلم إنه كان مؤمناً في جوهره، مسلماً عظيماً في مظهره، ولم يقدّر له أن يحجّ رغم كل ما فعله، وكلما كان يجهز لتحرير مدينة من الفرنجة، كان يطوف على جنوده، يطلب منهم الاستغفار، إلى أن حاصر القدس، ورأى تلك الجيوش الجرارة، التي لا قبل له فيها، فكان أن طاف للمرة الأخيرة على جنوده طالباً منهم الاستغفار، فسأله قادته، ولمَ كلّ هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال لهم: الاستغفار يبعد السيئات، وينقص منها، فكيف بكم تنتصرون، وسيئاتكم أكبر من سيئاتهم، لن تنتصروا، إلا إذا كان خيركم وحسناتكم أكبر من سيئاتهم وسيئاتكم، فانتصر صلاح الدين، ووقّع تلك المعاهدة الشهيرة التي آمن بها الجميع.
تحدث الإمام المقدّر من العلي القدير، بوابة مدينة علم الرسول العربي عليهما السلام عن الخوف، الذي يسكن عقول سواد البشرية من الحق، ليقول لهم بعد أن وصله خوفهم: الموت حقٌّ، حينما ننتقل إلى العصر الحديث، نسأل عن أسباب انتصار المقاومة العربية والإسلامية، وعلى رأسها حزب الله، كيف تنتصر؟ لأن حزب الله، آمن بأن المؤمنين بقضية التحرر، وإنهاء الاحتلال وحدهم القادرون على تحقيق النصر تلو النصر، والانتصار على أعداء الأمة، فكان اختياره للمؤمنين فقط الذين يقسمون بأن يقاتلوا قتال المؤمنين، ويقسموا بأغلظ الأيمان، على أنهم يهبون أرواحهم من أجل تحقيق عدالة قضيتهم، يستشهدون في المعارك استشهاد الأبطال، لا ينظرون وراءهم؛ بل يعرفون فقط التقدم إلى الأمام.
لنستذكر ذاك الزمن غير البعيد منا، عندما قام صدام حسين بقصف الكيان الصهيوني، ماذا عمل حاخامات كيانه؟ ركبوا الطائرات، وطافوا سماء فلسطين المحتلة مبخّرين أجواءها لغاية الحماية من يهوى الإله، مارسوا طقوس الصلوات والأدعية خوفاً على وجودهم، وهل تعلمون بأن جيوش العالم القوية وبشكل خاص القوى العظمى منها، يرافقها كهنة وأحبار، يحثونهم على الثبات في المعارك والتقدم إلى الأمام، حتى في حالات الدفاع والهجوم، وأثناء تصميم أي بارجة حربية، يجب أن يراعى وجود مكان ديني، يديره كاهن، يعظ جميع من فيها من أجل الحفاظ عليها، والانتصار لوطنهم، يبثّ فيهم روح الإيمان في قضيتهم المنشغلين بها، ومهما كانت نوعية الحكم السائد في بلادهم علمانياً أم علمياً، إلا جيوشنا العربية، فأين نحن؟
زار وفد من اتحاد الكتاب العرب في ثمانينيات القرن الماضي جمهورية الصين الشعبية، وأثناء استقبال رئيس جمهورية الصين الوفد السوري، سألهم الرئيس الصيني: إلامَ تصبون؟ وما مطالبكم؟ وكان من بين الوفد الشاعر الكبير سليمان العيسى، فشرحوا له: إننا نسعى لتحقيق الوحدة العربية، ونريد أن تتطور أقطارنا وأمتنا، تبسّم الرئيس الصيني، وأجابهم: إنّ ما تتحدثون به، ما هو إلا أضغاث أحلام، وتحدث عمّا قصد، أنتم أمة ذات رسالة، والإشكال يقع هنا، لن يسمح لكم الغرب برمّته، أن تتحدوا، أو أن تتطوروا، وأنتم الآن في ذروة ضعفكم، فابحثوا عن أفكار، تولد في مجتمعاتكم قوة بناء الإنسان، وتطوير وطنكم، فما حاجة الغرب لتدمير الصين؟ أو ما حاجة الصين لتدمير أوروبا أو أميركا؟ المشكلة الكامنة هي في أنكم أمة لها رسالة تاريخية.
اليوم إن لم نمتلك رسالة حقيقية للحفاظ على الأرض والإنسان، وإن لم نكن مؤمنين حقيقيين، وندافع بإيمان حقيقي عن مشروعيتنا في البقاء، إن لم نمتلك القيم الأخلاقية، ونتجه مؤمنين حقيقيين للانتصار في أي خانة نكون برأيكم، وعدونا يجهّز لدولة دينية، يقود جيوشه بإيمانه، أما آن لنا، أن نستلهم من كلّ ما يجري المرسوم والمخطط لنا، والذي يريد أن نبقى هشيماً، ترمى علينا الشرارة بين الفينة والأخرى، فيحترق جميعنا من دون استثناء أحد، لماذا؟ لأننا أضعنا منظومة رسالتنا، وغدونا يقاتل بعضنا بعضاً بلا عقل، بلا منطق، بالأنا السفلى، مبتعدين عن إنسانيتنا، ملأنا الغرور، وتربّع على عرش التواضع، واخترنا الفساد، وعممناه، فضاع الخير من بيننا، وانحصر في أيادٍ معدودة، لا تؤمن بأيّ قيمٍ، أو مبادئ، أو تسامحٍ طبيعيّ، أن نكون فيما نحن عليه، وطبيعي أيضاً، أن نصل إلى ما وصلنا إليه، فهل ندرك أين نحن؟