القصة الحقيقية للأفلام …بين الإبداع والاقتباس، حقيقة عاشها أصحابها وتقمصها ممثلون
ديالا غنطوس
لطالما أعجبنا بمجموعة من الأفلام الخلاقة، تلك التي تتضمن أفكاراً وموضوعاً لا يخطر على بال، وبُهرنا بإبداع وعبقرية صانعيها وكتابها ومخرجيها، لتتكشف الحقائق أن تلك الإبداعات ما هي إلا صور منسوخة عن وقائع عاشها بشر في مكان وزمان ما، وعايشوا أحداثها لحظة بلحظة، من فرح وألم وحزن وشتى المشاعر التي تابعناها على الشاشة بلهفة أحياناً، وتأثر وبغض وتعجب حيناً آخر، شاهدنا أفلاماً عن جرائم عديدة ولم يخطر لنا في يوم أن تلك الجرائم حدثت لأشخاص تألموا بسببها وعاشوها كما هي في الفيلم، كما رأينا أفلاماً عن الحب ولم يمر في خاطرنا أن تلك المشاعر تقاسمها اثنان وعانوا ما عانوه من آلام الحب وأشواقه.
بين أملٍ وقنوط، كفاحٍ واستسلام، شكٍ ويقين، وبقلبٍ تعتريه آلام الفقد والاشتياق حيناً والخذلان أحياناً، كانت القصة الحقيقية للسيدة كريستين كولنز التي وقعت في عشرينيات القرن الماضي، التي تم إحياؤها مجدداً في فيلم «استبدال Changeling» الذي التزم فيه المؤلف مايكل سترافنسكي بسرد تفاصيل ما جرى دون أي تعديل أو إضافة، وأبدع المخرج والممثل الأصيل كلينت ايستوود بإضفاء المزيد من الحس الإنساني على العمل، وخصوصاً باختياره للفاتنة أنجيلينا جولي لتجسد شخصية الأم كوينز، عاملة الهاتف التي اختفى ابنها الوحيد ذو الأعوام التسعة، لتبدأ رحلة البحث عنه ولتجد نفسها في مواجهة فساد واستهتار عناصر الشرطة ذاك الحين، الذين أدى بهم فشلهم في العثور على الطفل لعدة أشهر إلى إيجاد طفل آخر بديل من ابنها، بهدف الحد من تدهور سمعتهم الرديئة أصلاً، فقاموا بالضغط عليها لكي تقبل به، وحاولوا إقناعها أنها لم تتمكن من التعرف إليه بسبب الضغوط النفسية التي تعرضت لها طوال غيابه، إلا أن شعور الأم لا يخيب، ما دفعهم لإيداعها المصحة النفسية لإرغامها على عدم تحدي الشرطة، لكن فعلتهم هذه أدت لإثارة الرأي العام، وشاءت المصادفات في الوقت ذاته أن تتكشف خيوط جريمة أخرى حدثت في مزرعة دواجن خارج المدينة راح ضحيتها أكثر من عشرين صبياً، كان أحدهم اسمه والتر، لكن السيدة كولينز جزمت بوجود ابنها على قيد الحياة في مكان ما، وخصوصاً مع عدم تمكن الشرطة من العثور على جثته، وبقي للأمل مكان في قلب كريستين ولم يبارحه حتى آخر لحظة في حياتها.
الأمل ذاته والنضال المتواصل لاستعادة الغائب المخطوف، يتكرران إنما بسياق وشكل آخر وعلى نطاق أوسع، وذلك في معركة التحرير التي دارت رحاها بين الشعب الاسكتلندي والمستعمر الإنكليزي طوال 32 عاماً، تلك الحرب التي ألهمت المخرج والممثل الكبير ميل غيبسون فدارت كاميرته في فيلم «قلب شجاع Brave heart» ليقدم لنا من خلاله الملحمة التي قامت في القرون الوسطى وكان بطلها رجلاً اسكتلندياً «السير وليام واليس» ورفاقه الاسكتلنديين الذين بذلوا الغالي والنفيس في مقاومة الإنكليز لتخليص بلدهم من براثن الاحتلال، يركز الفيلم على قصة واليس الذي شهد في طفولته مصرع كل من والده وشقيقه حين تمردا على ملك إنكلترا إدوارد الأول، وانتقلت حضانته إلى عمه المقيم خارج اسكتلندا، ليعود بعد انقضاء عشرين عاماً إلى موطنه ويلتقي صديقة طفولته مارون ويتزوجا سراً للحؤول دون وقوعها تحت القانون الذي يمنح الحاكم الإنكليزي حق معاشرة العرائس في ليلتهن الأولى، لكن الأمر انكشف فاعتقلت مارون وقتلت لاحقاً، فكانت تلك شرارة المعركة الأولى في حرب الاستقلال الاسكتلندية التي قادها واليس وانتصر بمعاركها الأولى، لكن الأمر انتهى بأن تم اعتقال واليس وجرى تعذيبه ثم نفذ فيه حكم الإعدام في إحدى ساحات لندن بتهمة الخيانة العظمى، وبعد رحيله استمر رفاقه في المقاومة حتى نالوا الاستقلال. يؤخذ على الفيلم احتوائه على الكثير من المغالطات التاريخية، فيُجمع المؤرخون على أن واليس كان وحشاً يفتقد لمشاعر الطيبة والنبل وقام بإحراق قرى الناس ودمرها، وأن مقتل والده وشقيقه حدث قبل الغزو الإنكليزي بعشرين عاماً، إضافة إلى كذبة رفض زوجه لقانون حق الليلة الأولى الذي لم يكن موجوداً من الأساس. ومع كل ذلك حظي الفيلم بشعبية وانتشار كبيرين ونال الكثير من كبرى الجوائز حول العالم.
الإعجاب والانتشار الواسع كانا أيضاً من نصيب فيلم «نبوءات الرجل العثة The Mothman Prophecies» المستمد من قصة حقيقية جرت على أرض الواقع، في مدينة بوينت بليزنت في الولايات المتحدة الأميركية، حول مخلوق غريب ظهر وبث الرعب في قلوب سكان المدينة طوال عامٍ ونيف ثم اختفى بعدها تاركاً خلفه الكثير من التساؤلات والروايات حول ماهيته الغامضة، وهو ما دفع المخرج مارك بيلينغتون لأن يطلق فيلماً عن هذا المخلوق من بطولة الممثل القدير ريتشارد جير، الصحفي الناجح جون الذي انقلبت حياته رأساً على عقب في ليلةٍ حين كان عائدا إلى المنزل برفقة زوجه ماري التي تقود سيارتها في شارعٍ خالٍ حين انحرفت بسيارتها بشكل مفاجئ لتتجنب الاصطدام بمخلوق غريب ظهر أمامها، بينما لم يشاهده زوجها جون واستغرب من تصرفها، وأثناء إجراء الفحوصات بعد الحادثة اكتشف الأطباء وجود ورم قاتل في جمجمة ماري، التي فارقت الحياة بعد ذلك بفترة قصيرة، وقبل مغادرة زوجها المحزون للمستشفى تسلمه إحدى الممرضات مجموعة من الرسوم كانت قد رسمتها ماري أثناء فترة احتضارها، وجميعها تصور مخلوقاً قبيحاً ذا جناحين، وبعد عامين على وفاة ماري ينتقل جون إلى مدينة بوينت بليزنت التي يعتري سكانها الخوف من ظواهر غامضة تحدث معهم ترتبط بمخلوق ذي عينين حمراء مضيئة ويمتلك القدرة على الطيران بوساطة جناحين تشبهان أجنحة حشرة العثة أو الفراشة، وتتطابق أوصافه مع المخلوق الذي وصفته ماري برسوماتها، ليكتشف جون لاحقاً بأن لدى هذا المخلوق قدرة على التنبؤ بالكوارث قبل حدوثها ويحاول التحذير منها، كان آخر تلك الأحداث بُعيد ظهوره مرات عدة فوق الجسر الواقع فوق نهر اوهايو ويربط بين ولايتي ويست فرجينيا واوهايو، حيث سقط الجسر بعدها في عام 1967 حاصداً معه أرواح العشرات من الناس. قام المخرج مارك بيلينغتون ببعض من التعديل على القصة الحقيقية، حيث كان أول ظهور لهذا المخلوق في أحد المعامل المهجورة وشاهده العديد من السكان المحليين في مدينة بوينت بليزنت وجوارها وقاموا بوصفه على نحو متطابق، وانتشرت عنه مقالات صحفية في صحف مدينة أوهايو بعد أن جرى التأكد من مشاهدة هذا المخلوق من أكثر من 600 شخص، وأقيم له نصب تذكاري يتوسط المدينة.
كم من القصص لدى كل منا حصلت وتحصل في حياته بشكل يومي، وقد تكون أهم وأكثر تشويقاً وغنى من معظم أفلام هوليوود أن قمنا بسردها في رواية أو بتجسيدها في فيلم سينمائي، قد نتفق أو نختلف حول خصوصية الأمر باعتبار أن ذلك مرهون بموافقة صاحب القصة الحقيقية على نشرها ليطلع على تفاصيلها عموم الناس، وخصوصاً إن تم تعديلها وإضافة أحداث لم تحصل في الواقع، أو اجتزاؤها وإغفال أحداث مهمة لا تقل أهمية عما جرى تصويره، لكن كم هو جميل أن يتم تخليد تلك القصص التي عاشها من مضوا، وأن تحظى الأجيال المتعاقبة بفرصة الاستفادة منها واستذكار أبطالها.