متسولون… ووزراء…!
| إسماعيل مروة
منذ مدة لا أعرفها بسبب الأحداث التي تجري صرت شبه منفصل عن عالم الليل والناس والحركة، فما إن أصل إلى بيتي حتى أخلد إلى عالمي حتى صباح اليوم الثاني، ليلتا الخميس والجمعة الفائتتان كانتا مختلفتين، فبسبب مواعيد عمل كنت مضطراً للتحرك مساء في أزقة دمشق، لأكتشف مقدار ما يضج به البلد من حياة وصخب، فقد مررت على أغلب المقاهي في المناطق الراقية، فالحركة دائبة، ولا يظهر سوى عامل الفحم والعمال الذين يقومون على جلب الطلبات، الأماكن مكتظة، والسيارات التي تحمل أرقاماً مميزة مركونة أمام هذه الأماكن! صخب وحركة وموسيقا، وأناس كأنهم قادمون من عالم آخر من كوكب آخر لا يشعرون إلا بالراحة، إنهم يختلفون اختلافاً تاماً عن أولئك الذين يقفون أمام الفرن لساعات للحصول على ربطة خبز! كأن هؤلاء لا يأكلون الخبز، ولا يقفون أمام بائعي الخضار، ولا يعنيهم ما يكون ثمن عبوة الزيت النباتي ذرة أو دوار أو ما شابه..
كل هؤلاء لا يشبهون الذين انهمروا على سوق البزورية من الدوريات، ولا يشبهون أولئك الذين استقبلوا الدوريات بالأسئلة، وخلال فترة بسيطة فرغ هؤلاء من عملهم، ونظموا ضبوطاً بالمحال جميعها من دون استثناء، ومن دون طلب أي وثيقة أو فاتورة وسط دهشة الجميع، وعجز المسؤول الذي ترأس الدورية عن الإجابة عن أسئلة الباعة… بعضهم لم يكترث لتوسلات الباعة الدراويش كان يسحب من أرجيلته المعسّل وينفخ في وجه جليسته التي تبتسم له، وحين تحرك هذا نسي أن ينظم ضبطاً وهو يمدّ يده ليدفع ما طلب منه مقابل جلسته هذه..!
عندما خرج تأبط ذراعها وهو يقول: موغالي، كله فداك..!
جميل أن تتسكع في شوارع دمشق مساء، لتكتشف أن الحياة مستمرة بجمالها، وأن الإنسان السوري يحب الحياة، ولا يمنعه من الحياة أي مانع مهما كان شديداً، وأن هذا الذي لا يكترث للتوسلات نهاراً يملك القدرة على حب الحياة وقضاء وقت جميل مع صديقة تقدم ما جمعه من جولته لمقهى من النوع الفاخر!
وحتى لا يظن أنني أتوهم الحياة، وأنني أدافع عن الناس وأجافي الحقيقة، فإن الأغلبية العظمى من الناس لا يسهرون هكذا، وإن فعل أحدهم فلمرة لا أكثر ربما في الشهر أو الشهرين، ولكن هؤلاء الذين لا يتركون محلاً في المقاهي الراقية هم من صفوة المجتمع! يمكن أن يقال عنهم سوبر ناس.
في زاوية من الفندق الفخم تغلب العتمة، وحين تصل إلى منتصف البناء تبدأ الأضواء وتضج الحركة، فتاتان جميلتان تتحاوران حول الألبسة التي تعرض من خلال الماركات في المحال المحيطة بالفندق، ولكن الطريف أن واحدة كانت جريئة فطلبت من رفيقتها أن تلتقط لها صوراً على المحمول مع كل بدلة أو موديل، وتلك تنظر في اللقطة وتوافق، وتقول لرفيقتها، ما قدرنا نشتري قطعة فبقيت صور الكل معنا!
هرج ومرج، أطل السيد الوزير بقامته المديدة، سبقه سائقه وآخر إلى سيارة اللكزس الحكومية، السيدة وراءه تتحدث بهاتفها، وهو يتحدث بهاتفه، ويحاور شخصاً خرج معه من الفندق، كان سيادته يشرب القهوة وربما أكثر في الفندق، فعلمت أن الأمور بخير، فلابد أن السيد الوزير سيعلم أن القهوة ارتفع ثمنها، وأن مرتب موظف الدرجة الأولى لا يشتري عشرة كيلوغرامات من القهوة… ترى هل خرج بهذه السرعة لأنه غير راض عن أسعار المقهى أو المطعم؟
كان أحدهم يحمل كيساً وضعه في سيارة السيد الوزير عندما اقترب أطفال متسولون منه، لم يلتفت إليهم، وحين تسأله عن الأطفال يقول لك سيادته: إنهم بخير، وحين تشكو الغلاء سيقول لك: سورية أرخص بلد في العالم رغم كل الغلاء ولن يقول لك: الموظف السوري أرخص موظف في العالم رغم كل الرخص! سيتذكر هذا الوزير أن يرسل دورية لتتبع بائع البزورية والفلافل، لكنه لن يتذكر ما دفعه في المقاهي الكبرى، ولن يتذكر أنه نهر المتسولين الذين اقتربوا منه، وقال ممازحاً محاوره: ما معنا… الحياة قاسية. وهؤلاء المتسولون في هذا المكان الفخم يجيدون التعامل مع الزبون، فهم ليسوا كالمتسولين في المناطق الأخرى، ومع ذلك لم يتمكن أحدهم من صيد السيد الوزير.
رأيت وزيراً آخر، ولم أتمكن من المتابعة، فأنا أمر مروراً، وأخشى أن أتوقف فيراني من أعرفه، ويظن أنني أشتهي شيئاً من الداخل، رأيت الداخل ما من مكان فارغ على الإطلاق، بل هناك عدد من الناس ينتظرون أن يفرغ مكان ليجلسوا.. الحقيقة أن هاتين الليلتين رأيت فيهما ما لم أكن أتخيله أنه موجود بعد هذه الحرب على سورية، وبعد كل هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار وزراء ومسؤولون لا يسمحون بأن تخلو الأماكن الفارهة!
أغنياء، سوبر أغنياء، وسوبر وزراء لا ينظرون إلى أيديهم عندما تدفع، متسولون، وسوبر متسولين من الأعمار كافة، من كل اللهجات، من كل الأجناس يملؤون الأرصفة، في العتمة والضوء، طفل صغير، طفلة مسكينة، عجوز مهترئ عجوز عمياء.. من كل الأجناس يجلسون على الرصيف، يقتربون من الناس الذين يشبهونهم يطلبون العون، فالوزير لا يسمعهم، ولا يصلون إليه، والمسؤول أفرغ جيبه للنادل، والسوبر غني يتلهى عنهم مع من يرافقه في الأحاديث الكبيرة بينما يسبقه مرافقه والسائق ليعلم العمال أن المعلم قادم، ليجهزوا له طاولته!!
ليلتان كشفتا لي أن الحياة مستمرة، لكنهما كشفتا الجانب السلبي من حياة دمشق، وكم هي مؤلمة المعادلة، فدمشق ما تزال مكتظة، لكنها مكتظة بمتقابلين ضدين.. مكتظة بالمتسول والوزير وسوبر الغني…! بينما من تنتظره دمشق ليملأ جنباتها يفكر ويجتهد في البحث عن نوع من الزيت يستطيع شراءه ليكمل أيامه، وخاصة أن السيد الوزير يرى أن سورية أرخص بلد في العالم..
السيد الوزير يختصر العالم في نفسه، وإن تواضع رأى المتسول الذي لم يصل إليه، وربما رآه في نعيم لأنه يعيش في الضوء، ويتمتع برؤية المسؤول وهو ينهش قطعة من حلوى يدفع أضعاف ثمنها لأنه يلتهمها هنا..
تلتقط الفتاة صورة مع المانيكان، تضحك وتأخذ الصورة، ولا ينتبه السيد المسؤول إلى غصتها وربما دمعتها، وهي لا تكترث له وهو يدلف إلى سيارته اللكزس الحكومية المفتوحة الباب لاستقبال جسده الخرافي ثياباً وعطراً حين تصل الفتاة… تعرض الصور على أسرتها التي تتحلق حول مدفأة من حطب تنتبه إلى أنها وسط الصورة، وفي الصورة يظهر الوزير وهو يتكلم مع أحدهم على الهاتف، وإلى جواره امرأة على عكازها، يدير لها ظهره، وهي ترفع يديها إلى السماء..!
وحين وصلت جلست إلى السيد رئيس التحرير حدثته، ضحك، وقال: حقاً إنها أرخص بلد في العالم، وحين أردت المداخلة قال لي: الرواتب لا تحدثني عنها.. لسا ما شفت شي.
غيرنا الحديث، ودخلنا في حديث هو سبب لقائنا، وبفضله رأيت ما رأيت! إنها ليست سورية التي وحدها للإنسان عنوان.