هل الثقافة العربية في وضع تراجيدي أم كوميدي؟…البحث في الواقع الثقافي وأسباب تردّيه يشبه طريق الابن الضال!
إسماعيل مروة
لا تخلو دورية يومية أو أسبوعية أو شهرية أو أكثر من الحديث عن الواقع الثقافي، وعن حاضر الثقافة العربية، وكل من يكتب في الموضوع يرى نفسه كاشفاً للحقيقة وعارفاً للخفايا، ويقدم وصفاته للخلاص من هذا التردي، فهذا يحصره بالقراءة، وذاك يحصره بالتيارات الدينية، وثالث يرى أن الأسباب تنحصر في وسائل التقانة التي حلت محل الكتاب الورقي، ورابع يوسع ليتحدث عن التيارات الفكرية، وهكذا تطول الكتابات، تكثر الأحاديث، لتصبح أقرب إلى أحاديث المقاهي التي ينتهي مفعولها بانتهاء الجلسة! ووصل الأمر إلى المفكرين الكبار الذين حصروا الأسباب في الخصومات التي تجابههم! ترى لو انتهت الأمية هل ننتهي؟ وإذا تخلصنا من الفكر الديني هل نصل إلى الخلاص؟ ولو انقلبنا إلى التيارات الفكرية العلمانية هل حصلنا على الثقافة الحقة؟
الأمر يتجاوز الإسهامات التي وردت من كتابنا من أعلى الهرم الثقافي وصولاً إلى الكتبة الصغار أمثالي الذين يلتقطون فكرة ما ويدورون حولها، ومنظومة متكاملة تحتاج منا إلى وقفة طويلة وإعادة نظر في الإنسان وتكوينه ومحيطه وثقافته وحركته وتعليمه، بل زواجه وتربيته ووظيفته ودخله، واستقلاليته وما شابه ذلك من رؤى لا تزال غائبة إلى اليوم!
القراءة والنشر والسياسة
صدر حديثاً كتاب للدكتور مازن عرفة بعنوان «تراجيديا الثقافة العربية» وللمؤلف إسهام نقدي سابق ورواية، وهو أحد المهتمين المتابعين للشأن الثقافي، إذ يذكر متابعته للشأن الثقافي وإشرافه لأكثر من عقدين من الزمن، ومع أن الواقع الثقافي العربي وصل مرحلة الإحباط، إلا أن العنوان يشد القارئ لمتابعته وقراءة فصوله المتتابعة، وما في الكتاب من جهد يشكر عليه مؤلفه يشهد بسعة اطلاعه وعمق معرفته فهل كانت المعالجة كذلك؟
يقدم للكتاب سامي أحمد من مواقع عدة تجعله شريكاً في الكتاب وأفكاره، فهو صديق المؤلف الذي وجه شكراً خاصاً له، وهو الناشر، وهو قبل ذلك الشاعر صاحب الهم الثقافي، وفي هذه المقدمة قدم سامي تطوافة في عالم الكتاب وأزمته من التأسيس، مازجاً بين الأزمة الفكرية وأزمة الكتاب من القديم وحتى اليوم، وكنت أتمنى لو قسم هذه المقدمة المهمة للغاية إلى فقرات وأفكار، وتعمّق في تناولها، لأنها هموم معايش يعاني من كل ما يجري، ونلحظ ذلك من سيرورة أفكاره في تاريخ الثقافة والنشر حديثاً «وبدءاً من ثمانينيات القرن الماضي مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وظهور بدايات إخفاق «المشاريع الثورية» في الواقع العربي، أخذ نشاط دور النشر اليسارية في بيروت بالانحسار شيئاً فشيئاً، وبالمقابل بدأت تتأسس دور نشر ذات مشاريع ثقافية مستقلة. والأهم من ذلك هو بدء ظهور دور النشر الدينية بالارتباط مع صعود المد الديني في العالم العربي بأشكاله التنظيمية والشعبوية المختلفة، هذا الكلام مهم للغاية،وهذا ما أشرت إليه من ضرورة التعميق، فحتى الثمانينيات من القرن العشرين كان الفكر اليساري يتسيد الساحة، وكنت أتمنى من الصديق سامي أن يحدد أسباب إخفاق مشروعه الفكري، ولِمَ كان هذا المشروع عشوائياً؟! ولِمَ كان المشروع الديني حسب تعبيره منظماً؟!
هل أخفق المشروع اليساري نتيجة حروبه مع المجتمع؟
هل أخفق نتيجة الصراعات الداخلية؟
هل أخفق لأنه لم يستطع أن يخلق لحمة مع المجتمعات العربية؟
هل أخفق نتيجة صراعه مع التيارات الدينية واليمينية؟
إن كان إخفاق المشروع اليساري نتيجة للسؤالين الثالث والرابع، فهذا يعني أنه لا يستحق الحياة، فهو في الثالث أخفق، وفي الرابع لم يصمد أمام صراع مع الآخر! وأزعم أن سبب إخفاق اليسار مزيج بين التساؤلات الثلاثة الأولى باستثناء الرابع، وأهم مشكلات اليسار صراعه مع نفسه، والصراع الذي عاشه مع أفراده وقادته، والفكر الإقصائي الذي لجأ إليه، والذي لا يختلف بشكل من الأشكال عن الفكر الديني في رؤيته الأحادية! إضافة إلى أن اليسار ارتكب أخطاء التيارات الدينية التي مرت، والتي نعيشها في تغليب الهوية الإيديولوجية على الهوية الوطنية والانتماء مع فضاءات وهوامش أوسع للحرية، والأمثلة على ذلك كثيرة بين مثقفينا ومفكرينا من اليسار، الذين نتيجة صراعاتهم مع ذواتهم تحولوا إلى مفكرين دينيين… أما الجوانب الأخرى التي تناولتها المقدمة فقد وضعت اليد على الداء، وهو الناشر النشيط صاحب الرسالة والموقف الذي لم يتوقف عن النشر في كل الظروف.
رؤية موشورية
بين القراءة والسياسات الثقافية، وثورة الاتصالات، والاقتصاد وثقافة الفساد، وتحليل قبلية العالم العربي وأحزابه، والالتزام، والطبقة الوسطى، والتيارات الإسلامية، والمشروعات الثقافية الطائفية، ورأس مال النفط، وتسيّد الكتاب الإسلامي، وثقافة الاستهلاك تدور قراءات مازن عرفة فيما يقارب 290 صفحة، يحاول فيها أن يضع يده على المشكلات ليقدم تصوراته، والعناوين التي طرحتها ليست استخلاصاً، إنما هي عناوين الفصول التي احتواها الكتاب، ويلاحظ القارئ غياب اللحمة بين فصل وآخر في أثناء انتقال المؤلف من فصل إلى آخر، وإن كان وعاء الثقافة والإنسان هو الجامع لكل ما جاء فيه.
قرأت الكتاب بشغف لزعمي أنني معني بالثقافة وواقعها، لعلي أحصل على بغيتي، وحاولت أن أقرأ وأحلل وأشاهد هذه التراجيديا المختلفة فماذا كان منها؟
جاء الكتاب في أربعة أقسام رئيسية هي: من مظاهر أزمة المشهد الثقافي العربي: لماذا لم يعد العالم العربي يقرأ؟ /في أسباب أزمة المشهد الثقافي العربي، نهوض المشاريع الثورية وسقوطها/ في أسباب أزمة المشهد الثقافي العربي، انتشار المد الديني/ في أسباب أزمة المشهد الثقافي العربي، اجتياح ثقافة الاستهلاك. وتحت كل عنوان من عناوين هذه الأقسام توجد عناوين فرعية عديدة، وباستثناء العنوان الأول، فإن الأقسام الأخرى لا مسوّغ لتقسيمها، فكلها تتناول أسباب الأزمة، ويكتفى بالعنوان الفرعي لكل قسم.
أما السؤال الأول لماذا لم يعد العالم العربي يقرأ؟ فهو سؤال غاية في الأهمية، ويطرح في كل جلسة ثقافية تجمع معنيين بالثقافة، بل يطرحه أحياناً بعض المثقفين الذين لا يقرؤون إلا أنفسهم في أحسن الأحوال، أو لا يقرؤون مطلقاً!!
وقد بذل المؤلف المتابع جهده في تتبع هذه الظاهرة من عدم القراءة ابتداءً من أن القراءة لا تشكل ظاهرة اجتماعية، ووضع اللوم على السياسات الثقافية الوطنية، ثم انتقل إلى ثورة الاتصالات وأثرها في القراءة، وهذا الجانب ليس مقتصراً على الجانب العربي، فثورة الاتصالات ظاهرة عالمية ومستوردة وإن كانت مؤثرة فهي من المفترض أن تؤثر في الذي أوجدها بصورة أكبر من تأثيرها في المجتمعات الأخرى.
وفي القسم الثاني تناول المشاريع الثورية- حسب تصنيفه- ليختم بالحديث الأهم وهو الذي يتعلق بانتعاش الطبقة الوسطى وسقوطها، وما أطلق عليه اسم المشاريع الثورية أخفقت وسقطت، فهل سقطت بفعل خارجي تآمري أم بفعل داخلي؟ ولماذا أخفق هذا المشروع إن قبلنا بثوريته تجوزاً ونجح المشروع الديني في الاستقطاب؟ إن أسباب سقوط المشروعات الفكرية تكمن فيها وداخلها، والجيل الذي عاصر هذه المشاريع السياسية يشهد بأنها تحولت إلى مشاريع أبوية ونفعية على حساب المشروع الفكري، وتصارعت فيما بينها حتى تهيأ للمشروع الفكري الديني المشظى أصلاً أن يبرز واحداً في مواجهتها، وثمة إشارات مهمة عن قبيلة الحزب التي حوّلت الأحزاب إلى مفهومات عشائرية قبلية لا تقل خطراً عن التيارات الأخرى، وربط المشروع الديني بالثقافة القبلية النفعية كان معتمداً على الدعم المادي والإيديولوجي، وهو بالمحصلة قراءة، ولكن بمفعول رجعي، وأشرت إلى أن حديثه عن الطبقة الوسطى هو الأهم، لكون الطبقة الوسطى هي الحامل للقراءة والثقافة والفكر والعلم في أي مجتمع كان، وما علينا إلا أن نعمل اقتصادياً على إحياء هذه الطبقة لتعود الأمور إلى طبيعتها.
وركز المؤلف في الأقسام والعناوين الأخرى على الثقافة الدينية،ووصفها بثقافة العمامة والثقافة الاستهلاكية وثقافة رأس المالي النفطي، وهذا يعزز مسؤولية المؤسسات الثقافية الوطنية، ويحملها مسؤولية ما حدث، إضافة إلى المشاريع الثقافية التي حملت مشروعات نهضوية، ولا أصل إلى تسميتها بالمشاريع الثورية، وإن كنا قد وقعنا تحت تأثير الثقافة الماضوية فعلينا أن نسأل عن الأسباب، وأن تتم محاسبة مَنْ كان مسؤولاً عن ذلك، أما ثقافة الاستهلاك فهي ثقافة عالمية وقديمة، بل لازمة في كل وقت، ويبقى السؤال لِمَ صارت هذه الثقافة علامة عربية مسجلة؟
كتاب مهم ويسلط الأضواء على واقع مؤلم ومزر، وكنت أتمنى على المؤلف أن يعمل على تبويب الكتاب بشكل آخر، وأن يعمد إلى إعادة المعلومات إلى مصادرها ومراجعها في أماكنها، فموضوع مثل هذا لا يمكن أن يقبل شكل موضوع التعبير الطويل له، ولا يكتفي بأن يضع عدداً من المصادر في الصفحة الأخيرة، وأظن أن الحواشي والإحالات تزيده علمية وقيمة، ولكن هذا لا يخفف من قيمته وأهمية الموضوعات التي عالجها.