ثقافة وفن

أدلجة الثقافة…!

| إسماعيل مروة

أن تنزع إلى الثقافة يعني أن تسعى إلى السمو، فالثقافة تجعلك مهموماً بالقيم والمعرفة، وإن تخيلت أنك مثقف ولم تجد في نفسك السمو الذي تعيشه النفس والروح، فإنك لم تصل إلى مفهوم الثقافة، فحتى اللغويون العرب أخذوا الثقافة من المثاقفة، وهي بري السهام لتصبح أقدر على دخول الجسد بسلاسة ومن دون ألم، كذلك هي الثقافة تفعل بمعتنقها، بالمثقف الحقيقي، وأول ما تمنحك الثقافة، وإن كنت أمهر الكتاب أن تقرأ سواك، ولنا أن نتخيل المثقف الذي يكتب نفسه ويقرأ نفسه، ويجتر نفسه، ولا يرى إلا نفسه، وإن تحدث تحدث عن نفسه، فكل الثقافة هو! وكل القراءة هو! وجلسته لتناول طبخة رديئة أو كأس خمر هي محور الكون! وإن خرج المثقف من إطار ذاته فهو في طريقه ليكون مثقفاً، يقرأ كل ما تقع عليه يده، لا يميز بين عنوان وآخر، وبين كاتب وآخر، فالمعرفة هدفه الأساسي الذي يسعى إليه، والذي يهمه هو أن يقرأ المختلف عنه سواء كان شريكاً في الوطن أم لم يكن شريكاً، الذي يفعل هذا يكون ساعياً للمعرفة، مستحقاً للقراءة عندما يكتب قصيدة أو مقالة أو قصة، لأنه استلهم من الجميع، ومن حقه على الجميع أن يستقبلوا إبداعه! أما إذا وجدنا المثقف لا يقرأ إلا توجههه، ولا يشيد إلا بأصحابه ولا يجد الصواب إلا في الأصوات التي تماثله المذهب والطائفة والأيديولوجية، فذاك مثقف لا قيمة له في أحسن الأحوال! ولكنني أذهب أبعد من ذلك، فهذا المثقف الذي لا يرى الخير والجود إلا في جانبه وجانب انتمائه لا يختلف كثيراً عن الذين يشتمهم من المتشددين والمتطرفين، بل الإرهابيين، لأنه متشدد ومتطرف، ويمارس الإرهاب في طمس حقوق الآخرين، وينسب لأصحابه أفضالاً ليست لهم، وهي في أحسن الأحوال مثالب!!
أرأيت إلى البسطاء الذين أعمتهم الأيديولوجية؟
أرأيت عندما يخطئون أصحابهم إن تطببوا عند من لا ينتمي إليهم؟
أرأيت عندما يلومون من يقصد مهندساً أو معلماً ليس منهم؟
يأتي المثقف ليلوم هؤلاء البسطاء، بل يجلس لينظّر عليهم، ويصفهم بالتشدد والتطرف والتخلف، وهو على حق، لأن هذا التطرف يقود إلى الإرهاب الذي يستبيح الدم والروح، كما استباح استبعادهم من المجتمع، هو على حق في لومهم، وعلى الجميع أن يشاركوه هذا اللوم، ولكن ألا ينظر هذا المثقف الموتور المغلق إلى نفسه وروحه وقلمه؟! لا يختلف مثقفنا العظيم- أينما كان- عن ذلك الجاهل، أو عن تلك الجاهلة اللذين يريان الانغلاق المجتمعي حكماً شرعياً غير قابل للتأويل والتفسير، بل إنه أكثر خطورة، وأكثر تأثيراً لما يملك من جماهيرية ومنبر وتأثير.. الثقافة سمو لا غير، والثقافة نوافذ مفتوحة للشمس، على كل توجه، وإلى كل شعاع من شمس تأتي من هنا أو هناك، الثقافة تفتح للفكر، الثقافة أخذ من الآخر، الثقافة حوار مع الضد لا حوار مع الذات، والمثقف الحقيقي هو الذي لا يقرأ ذاته وحدها، وهو الذي يسعى إلى الآخر لحواره والأخذ منه واستقطابه، أو الانجذاب إليه إن كان مالكاً لشيء من حقيقة..!
الثقافة أخطر ما في وجودنا، خاصة إن حوّلها أحدنا إلى أيديولوجية! وكأنه لا يكفي مجتمعنا المرهق المتعب ما فيه من أيديولوجيات دينية ومذهبية وطائفية وقومية سماوية وموضوعة، كل حياتنا تحول إلى أيديولوجية خانقة قتلت مجتمعنا قبل أن تقتل الإنسان، وهنا على المثقف الحقيقي أن يعي خطورة الأدلجة، وأن ينزل من برجه العاجي، وأن يخرج من قوقعته التي يتوهم أن الناس لا يعرفونها ليكون واحداً من الناس وبين الناس!
كثيرون من المثقفين في أحاديثهم، في حياتهم، في كتاباتهم يمثلون قمة الأدلجة الضيقة المنفرة، ويجلسون ليتحدثوا عن التسامح والتصالح! تصالح يا هذا مع ذاتك أولاً، تصالح مع الثقافة، كن محباً، وبعد ذلك تحدث عن الآخر وعن التسامح، اخرج من تمترسك المقيت لتقابل الآخر قبل أن يتمترس، ولا يكفي أن تدّعي أنك إصلاحي، وأنك ثوري، وأنك معارض للخطأ، وما من أحد شهد لك بطولة الإصلاح إلا في كلماتك التي اقتنعت بها وصدقتها..!
بعد عقود من الانسياق وراء كلمات مثقف، وبعد معارك شديدة حول ما يريده ويقوله، بعد عقود وأطنان الورق اكتشف هذا المثقف أن ينتمي إلى.. بعد عقود من الدوران في السلطات من كل نوع، وبعد تمنع لا مثيل له بالمكاسب، اكتشف هذا المثقف أن في الوطن يقبع الإنسان المظلوم، ورأى ضرورة إنصافه من الظلم الذي يقع عليه…! هل كان هذا مثقفاً؟ وهل كان ذاك مثقفاً؟ هل كان المثقف الذي عاش عمره ماركسياً وما شابه، وجنى بطولات ومريدين حقيقياً عندما عاد في أخرة لينتمي إلى مذهب أو طائفة أو مدينة؟!
هل تتخيل ذلك الذي أعطته الإنسانية ثقافة تعمّ الكون، ويقف ليقول أنا.. وأنا… ومن كل الانتماءات والطوائف بلا استثناء، وأستحي أن أستعمل الأسماء لهذه الانتماءات.
هل هناك من يعرف طائفة روسو أو موليير أو شكسبير أو حتى دانتي الذي اقترب من هذه الحدود في كوميدياه الإلهية؟ هل اعتنى جان بول سارتر بطائفته أم بوجوديته؟ هل دافع عن فرنسا القومية أم عن الوجود الإنساني الجزائري؟
هذا حالهم إنسانياً، فماذا عن حالهم مع شركائهم في الأوطان؟
يسأل كثيرون لِمَ لم تصل الكتابات العربية إلى العالمية؟ ويسأل آخرون لماذا لا نملك مفكرين؟
أجل لا نملك مفكرين، فكل ما لدينا من فكر ترجم وتم اعتناقه بالدهشة، ثم ما لبث المدهوشون أن عادوا إلى طوائفهم ومذاهبهم ومطارنتهم ومشيخاتهم، وقراهم، ومزاراتهم، وبقي ما ورطوا الناس عند ترجمته على قارعة الطريق!
أيها المثقف الذي هو أنت اجعل عدستك بحجم الوطن، وارقب الإنسان في أي صقع كان، فالثقافة ليس ما قاله ابن جلدتك أو انتمائك..
كن ذلك المثقف الإنساني الذي يعنيه أن يقول، والذي لا يغير أقواله إن طورها.
أدونيس يعلم أنني لا أنتمي إليه، ولكنه يعلم أنني قرأته وأحترمه، وأتقاطع معه، فأعطاني ما لم يفعل مع من يتغنون به، وأنا كنت أميناً عليه، ولي معه مواعيد أخرى… ولكن ضيق صدر مريديه جعلهم يرفضون ما قاله، لأنه قاله لمختلف عنهم!!
أعرفتم لم حصل معنا ما حصل؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن