ثقافة وفن

«غابة الحق» لفرنسيس مرّاش الرواية الأولى … بناء العلاقة بين الحاكم والشعب للارتقاء بها عبر الحكاية والموعظة .. الحكيم رسول المحبة والسلام والفيلسوف هو المشرف على المحكمة لصياغة مجتمع جديد

| عامر فؤاد عامر

يؤرَخُ لرواية «غابة الحق» بأنها الرواية العربيّة الأولى في العصر الحديث، وعلى الرغم من الجدل الحاصل حول هذه البداية؛ إلا أن التكامل الذي أصابه كاتب هذه الرواية «فرنسيس فتح اللـه مرّاش» يسوق الجميع للاعتراف بها كنقطة بداية واضحة للرواية العربيّة، وتشير الدراسات إلى أن الروايات التي تنافسها على هذه المكانة هي «ويْ إذن لستُ بإفرنجي» 1860 لـ«خليل الخوري»، و«غادة الزهراء» 1899 لـ«زينب فواز»، و«عذراء دنشواي» 1906 لـ«محمود طاهر حقّي»، و«زينب» 1914 لـ«محمد حسين هيكل».
تقوم «غابة الحق»على ثمانية فصول متلاحقة في الرسالة التي أرادها الكاتب «فرنسيس مرّاش» فهناك رسالة خفيّة أحبّ أن يصل بها إلى الحاكم أو المسؤول في رعاية رعيته، والالتزام بمبادئ أخلاقيّة إن تمّ فقدانها فسيفقد السيطرة بعدها على المجتمع، وبصورةٍ أو بأخرى تذكرنا هذه الرواية بأعمال عظيمة خلّدها التاريخ الإنساني وإن كان هناك فروقاتٍ كبيرة في المبنى والنوع مثل: «جمهوريّة أفلاطون»، و«المدينة الفاضلة» لـ«الفارابي»، و«كتاب الحُكم» لـ«نظام المُلْك»، و«الأمير» لـ«ميكافيللي» وغيرها، بغض النظر عن الاختلاف في جنس كلّ عمل من هذه الأعمال التي منها فلسفي عميق وآخر سياسي بحت أو أقل من ذلك، لكن غايتها تبدو متقاربة ومتضادة فهي تمنح القارئ مجموعة كبيرة من التوجيهات للالتزام ببناء منهجي للدولة وشكل الحكم والاتجاه نحو الحياة المنضبطة والحرّة بالمفهوم الذي يؤمّن راحة البال للراعي والرعيّة.

حلم وهواجس
تتطرق الرواية هذه لمجموعة من المبادئ التي يتمّ جمعها بطريقة مفيدة وصولاً لهدفين الأول منهما التوعية والإحاطة بالأمور التي تخدم المسؤول أو الحاكم، فتجعله دائم التيقظ وساعٍياً للاهتمام بأن تكون أعماله أكثر قرباً للاكتمال، والأمر الثاني القرب من الرعيّة والرأفة بممثليات المجتمع وكيفيّة الشعور بهم والالتزام بهم عن طريق المحبّة والصرامة معاً، وقد مهد الكاتب إلى هذه الغاية في الفصلين الأول «الحلم»، والثاني «الهواجس»، وعلى الرغم من الإطالة والوصف الزائد الذي يحمل القارئ بسبب ذلك إلى الملل إلا أن فكرته تستحق الرعاية والاهتمام فهو يبطن ما يريد من خلال حلمٍ يدّعيه، فيبرر لنفسه تلك الأوصاف الكثيرة وكأنّه في عالمٍ غير أرضي وفي مملكةٍ ليست ذات صلة بأهل الأرض. من الأفكار التي شرحها هنا أن الحرية نوعان الأول سماه الحريّة الأدبيّة الخاضعة للأحكام والواجبات والتي تنظمها القوانين والمراسيم، أمّا الحريّة الثانية فهي الطبيعيّة التي لا نطاق يحدّها ولا فيها ابتداءٌ أو انتهاء وهي الحريّة التي ستدعو للتخريب مع مرور الوقت والتي يُخشى منها، وفي جانبٍ آخر يفرّق «المرّاش» بين لغتي الاستعباد والمساواة التي ينتهجها الملوك والحكام، وأي منها التي تذهب بالدولة أو المملكة للتفوق والانتصار أو للضعف والانكسار.

مملكة الروح
في هذا الفصل يستمر الكاتب على النهج نفسه مع مزيد من التعاريف والشروحات والأحاديث المتبادلة في ذلك المكان المُتخيل بالنسبة له، إلا أنها جاءت بالمزيد من الإطالة وإثارة الملل، وعلى الرغم من ذلك حققت الغاية والهدف الذي يسعى إليه، فهناك مزيد من المقارنات وصولاً للغاية، ومن النقاط البارزة التي أشار إليها والتي تدل على حالة من الوعي هي النقطة التي شرح من خلالها العلاقة بين الروح والمادّة وتحكّم العالم الروحاني بالمادي وتفوّقه عليه، وهذه النقطة وإن تبدو غامضة لدى البعض إلا أنها تحمل كامل الحقيقة!.

السياسة والمملكة
يهتمّ الباب الرابع في هذه الرواية ببناء العلاقة بين الشعب والحاكم والارتقاء بها، فيوجّه رسالة من خلال تفاصيل تجري في أحاديث ونقاشات غايتها التوجّه بعناية إلى المسؤول لشرح علاقة فلسفيّة أزلية تربط الشعب بالحاكم فلا يقوم واحد من دون وجود الآخر وكيف يمكن الارتقاء بهذه العلاقة لتكون أفضل وأجمل وتخدم الطرفين، ويتطرق في هذا الفصل أيضاً لجوانب أخرى منها ضرورة وجود المستشار الحكيم وصاحب الرؤية والنظافة فالفكرة إن لم تحمل حالة من الأخلاق ستسعى نتائجها للتفرقة والتدمير، وأيضاً هناك وصف واهتمام بميّزات الشخصيّة القائدة والشخص المؤهل لتبوؤ المركز أو مكان المسؤوليّة وأهمية صفاته.
في هذا الفصل يلجأ الكاتب أيضاً إلى وصف رحلة بقالب روائي الغاية منه اختصار رحلة البشر إلى المدينة ابتداء من المنابت الأولى للإنسان، وصولاً إلى الحضارة المتمثلة بالتمدّن وبصورةٍ منجزة ناجحة إلى حدٍّ كبير، وفي الجانب الآخر يقدّم استعراضاً لأسباب الهدم للحالة المدنيّة وتخلفها وتراجعها.

التمدّن
التمدّن في اللغة هو الدخول في المدينة، وفي الاصطلاح هو ناموس يرشد الإنسان إلى تجويد أحواله الطبيعيّة والأدبيّة، وهذا الناموس يبنى على 5 دعائم، وهي أولاً: تهذيب السياسة، وثانياً: تثقيف العقل، ثالثاً تحسين العادات والأخلاق، رابعاً: إصلاح المدينة، خامساً: المحبّة. وقد تطرق فصل التمدّن لصفات السياسي الذي يجب أن يتربى على تربية رياضيّة وأدبيّة وعلى الشريعة والقانون، وبغير ذلك يتحكم به الأجنبي ويضلله، ومن صفاته أيضاً الفطنة والنباهة، وألا يكون خاملاً، والعدالة والقناعة وغير متولعٍ بالمال، والشجاعة وألا يكون سكيراً، وغير ممازحٍ، وأن يسعى للمساواة بين القوي والضعيف والغني والفقير، ودائماً ينظر للمصلحة العامة… إلى آخره.
قواد الشرّ
مجموعة من الشخصيات مثلها تحت عناوين فجاء هذا الفصل في التهيؤ لمحاكمة هؤلاء الذين جسّدهم في أفكار هي: العبودية، والجهل، والكبرياء، والحسد والطمع، والبخل، والضغينة، والنميمة، والكذب والنفاق، والخيانة، وهي بحسب رأيه مواضع الضعف والمشاكل التي تصيب المجتمع وتسعى لانهياره. في الجهة المقابلة اختار أضداد هذه الصفات وجسدها بشخصيّات تستعد لمحاكمة أولئك فكانوا يحملون أفكار: العلم، والاتضاع، والرضا، والقناعة، والكرم، والصفح، والكتمان، والصدق، والحق، والأمنية.

المحاكمة
في المحاكمة هذه تجري مناقشة بين شخوص الرواية التي جسدها بصفات وأفكار كما أشرنا سابقاً وفيها تبيان للضرر الذي يفتك في المجتمع بسبب كلّ صفة من تلك الصفات، والبحث عن ضرورة إبادتها وإلغائها، وجرت المحاورة هنا بطريقة منطقية قريبة جداً من الذهن فكانت محاكمة بأسلوب المناقشة وإظهار الجانب الإيجابي والسلبي لوجهي كلّ صفة في عدم وجودها في المجتمع وفي وجودها، وتجري تلك المحكمة بإشراف رسول المحبّة والسلام والفيلسوف الحكيم وعلى مرأى من ناظري الحاكم والحاكمية، ومتابعة من الجمهور العريض.

اليقظة
كان لا بدّ من حلول هذا الفصل لتُختتم به الرواية «غابة الحق» فتكون نهاية منطقية لبداية الحلم والهواجس الداخليّة لراويها، فبعد اليقظة يتأمل الراوي ما كان به من منام وما هو عليه من حقيقة، لكنه يرقى لفكرة تزيده أملاً وتفاؤلاً إلى أن الخير قادم والبلاد ستزدهر ولاسيما أنّه على أرضٍ حملت الحضارة الأولى للبشريّة فيقول بناءً على صوتٍ مدوٍ يسمعه من بين الغمام: «ابشري ابشري يا بريّة آرام القديمة، وافرحي وابتهجي يا شهباء سورية، فها العناية الملوكيّة مقبلة إليك، والمراحم السلطانيّة هاجمة عليك؛ فلا عاد يفترسك المحل أو يهتك بك الإهمال».
صدرت هذه الرواية عن اتحاد الكتّاب العرب ضمن سلسلة كتاب الجيب من اختيار د. «نضال الصالح»، وتقديم أ. «نذير جعفر».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن