ثقافة وفن

لا سكوت بعد اليوم

| د. خلف الجراد

ثمة أشخاص في الغرب والشرق على السواء يثيرون الإعجاب ويستحقون الاحترام، لتوخيهم العدل في مواقفهم، والاستقامة في سلوكهم، والنزاهة في أحكامهم.. فمنهم على سبيل المثال «بول فندلي»، العضو السابق في مجلس النواب الأميركي، الذي بدأ حياته العملية محرراً لصحيفة أسبوعية محلية قبل أن يصبح عضواً في «الكونغرس» عن ولاية «إيلينوي»، حيث قدر له أن يقضي اثنين وعشرين عاماً مشرّعاً بارزاً في القضايا والشؤون الداخلية والخارجية.
تجربة النائب بول فندلي الطويلة في الكونغرس الأميركي سمحت له بالاطلاع العميق على كثير من خبايا وأساليب اللوبي الصهيوني من جهة، وعلى عمل السفارات العربية في واشنطن والأبعاد الحقيقية للقضية الفلسطينية من جهة أخرى، الأمر الذي جعله يكوّن لنفسه رؤية خاصة في هذه المسائل تختلف عن التوجهات الأساسية للسياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. يقول فندلي: بعد سنوات طويلة من العمل عاد عليّ انغماسي في شؤون الشرق الأوسط السياسية بالعار والشنار لدى الكثيرين من يهود أميركا، وبالسمعة السيئة في إسرائيل، وبالإطراء والمديح في كل أرجاء العالم العربي. وبحلول عام 1980 وجدت نفسي هدفاً لأشنع حملة برلمانية في تاريخ الولاية، شنتها المدن التي يتمركز فيها النشاط الموالي لإسرائيل. وبفضل سيل الدولارات العدائية المتدفق من المناطق الساحلية الأميركية ومن شيكاغو المجاورة أصبحت «عدو إسرائيل رقم واحد» كما أصبحت الحملة ضد إعادة انتخابي الشغل الشاغل للوبي الإسرائيلي ( بول فندلي، من يجرؤ على الكلام/بيروت-لبنان، 1985، ص 5-6). فكانت تجربة مريرة دفعته لتتبع واستقصاء خطط وأنشطة وأساليب «اللجنة الأميركية الإسرائيلية للشؤون العامة» (التي تعرف اختصاراً «إيباك» AIPAK). فما أن يذكر هذا الاسم أمام أي شخص في «الكابيتول هيل» (أي مبنى الكونغرس في واشنطن) ممن يتعاطون بسياسات الشرق الأوسط، حتى يتجهم وجهه، إن لم نقل يمتقع، فإيباك هي صاحبة السلطة الغالبة بين المجموعات الضاغطة (اللوبيات) في واشنطن (من يجرؤ على الكلام، ص 45).
صحيح أن «إيباك» تشكل جزءاً من اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، بيد أنها من ناحية التأثير المباشر على السياسة الأميركية العامة هي الأهم بكل وضوح. وفي السنوات الأخيرة عمقت ووسعت نفوذها بشكل هائل. ويقول فندلي في معرض حديثه التفصيلي بشأن دور الإيباك في الكونغرس: «لا أبالغ إذا قلت إن إيباك تتحكم فعلاً بكل تصرفات الكابيتول هيل بشأن السياسة الشرق أوسطية. ويكاد جميع أعضاء مجلس الشيوخ والنواب يطيعون بلا استثناء أوامر هذه اللجنة، لأن معظمهم يعد إيباك الممثلة المباشرة للكابيتول هيل وذات القدرة السياسية التي تتيح أمامهم فرص النجاح في الانتخابات أو تقضي عليها» (من يجرؤ على الكلام، ص 46).
يحفل الكتاب بعشرات الأمثلة والأدلة والمعطيات الدقيقة التي تخص أعمال اللوبي الصهيوني في الكونغرس الأميركي، وتأثيره القوي على سياسات أميركا في منطقة الشرق الأوسط. وهو ما يدعو إلى التندر الكثير في الأوساط الحكومية بهذا الشأن. فمثلاً، ذكر «دون بيرغوس»، السفير الأميركي الأسبق في السودان والدبلوماسي المتقاعد: «أننا كنا في وزارة الخارجية نتندّر بأنه إذا أعلن يوماً رئيس وزراء إسرائيل أن الأرض مسطحة، أصدر الكونغرس خلال 24 ساعة قراراً يهنئه فيه على هذا الاكتشاف العظيم» (من يجرؤ على الكلام، ص 48).
أما في كتابه «لا سكوت بعد اليوم» (الصادر في عام 2001)، فإنه يقوم بمحاولة جريئة لدحض الأفكار النمطية الزائفة والمفاهيم الخاطئة والصور المشوهة للإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة وفي أذهان الرأي العام الأميركي. فهو يرى أن تبديد الأفكار النمطية المغلوطة عن الإسلام مهمة ملحة في المجتمع الأميركي، لكونها تساهم في صعوبة اندماج هذه الشريحة الكبيرة المعتنقة للإسلام في مجال الحياة الأميركية العامة، كما أنها تحول دون تعزيز قيم التسامح والتفاهم والتعاون بين أتباع الديانات والعقائد المختلفة. إضافة إلى مقارنات عديدة بين الدور القوي الذي يقوم به اللوبي الأميركي المؤيد «لإسرائيل» وردود الفعل المؤقتة والموسمية التي يقوم بها الأميركيون من أصل عربي، الذين وصفهم «ميرفين م. ديماللي»، وهو زميل سابق لبول فندلي (من كاليفورنيا) بأنهم يفتقرون إلى «حس الإحسان السياسي على ما يبدو(لا سكوت بعد اليوم، ص 375)، فهم يشعرون بالارتياح في الإسهام بسخاء لبناء مسجد ما، لكنهم لم يدركوا إلى الآن أن هناك حاجة ملحة أيضاً للاستثمارات الكبيرة في الحملات السياسية والعمل السياسي المنظم والفاعل والمؤثر.
غير أن هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 أصبحت بمثابة إعلان نعي لمبادرات بول فندلي الجريئة لمواجهة الصور والأفكار النمطية حول الإسلام والمسلمين في أميركا، إذ احترقت مع برجي التجارة العالمية بنيويورك جهود كبيرة ومضنية بذلها أصدقاء العرب في الولايات المتحدة، وفي مقدمتهم بول فندلي، الذي دفع ثمن مواقفه هذه غالياً (حيث نجح اللوبي الصهيوني في الحيلولة دون إعادة انتخابه لعضوية مجلس النواب الأميركي في عام 1982). وبعد أن كان فندلي قد خصص مؤلفاته التي أصدرها على مدى خمسة عشر عاماً لفضح اللوبي الصهيوني وأعماله وأساليبه القذرة في الولايات المتحدة الأميركية، ودحض الأفكار والتصورات المسيئة للإسلام والمسلمين، اضطر للانكفاء على الذات و«السكوت» (خلافاً لعنوان كتابه الدفاعي الحماسي «لا سكوت بعد اليوم»)، لمدة عشر سنوات، وكأن لسان حاله يقول: «لا فائدة من الكلام»، حيث عاد ليراجع مسيرة حياته الشخصية والسياسية بمذكرات أطلق عليها عنوان «أميركا في خطر» (صدرت في عام 2011). ولا شك أن مجمل ما حدث منذ عام 2001 إلى اليوم شكل ضربة قوية لمشروعه السياسي والفكري على أيدي السلفية والوهابية، التي لم تصبح الأداة الرئيسة في تشويه جوهر الإسلام وقيمه السمحاء وحسب، بل تحولت إلى عقبة كأداء في طريق الاستقرار الدولي، فضلاً عن المحلي والإقليمي.
وبرهنت الأحداث العاصفة التي جرت في السنوات الخمس عشرة الأخيرة أن بول فندلي لا يمكنه أن يصلح ما أفسدته الوهابية بمختلف أشكالها وتجلياتها ومسمياتها، من تشويه خطير للإسلام وسمعة المسلمين في العالم أجمع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن