ثقافة وفن

بلند الحيدري رائد الحداثة الذي أنكر دوره … «خفقة الطين» شاهدة على دوره الشعري وأسبقيته

| أحمد محمد السّح

حين يشرع الباحثون باستلال أقلامهم وقلب صفحات مراجعهم لحسم المعركة الكثيرة الغبار بين بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة في أسبقية التوجه إلى الكتابة بأسلوب شعر التفعيلة، كثيراً ما يضيفون عبد الوهاب البياتي إلى قائمة الصراع، ولكن الأكثر إهمالاً هو بلند الحيدري، الذي لا يذكره الكثيرون في هذا الصراع لأنه نفسه كان زاهداً في هذا السبق، مشغولاً بشعره وتصعلكه المعاصر.
حين كتب الدكتور لويس عوض «بلوتلاند وقصائد أخرى» وزامنه علي أحمد باكثير حين ترجم مسرحية شكسبير، اعتبرت هذه المحاولات إرهاصات شعرية تبدأ بنقر وتر التغيير في نموذج الكتابة وتخرج عن النموذج الفراهيدي، لكن هذه المحاولات ظلت «صرخة في واد» فهي لم تجد من ينتقدها أو يتابعها أو يسير على هداها، ولم يطل الزمن حتى ظهر الجدل بين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب بين قصيدتين هما «هل كان حباً» للسياب و«الكوليرا» للملائكة. وقد نجحت الملائكة حين نشرت قصيدتها مذيلةً بتاريخ 27/10/1947 في حين أن السياب أصدر ديوانه الأول «أزهار ذابلة» في منتصف كانون الأول من عام 1947، ولكن السياب رد بأن المجموعة طبعت في مصر قبل ذلك، فعاد ونشرها في مجموعته «أزهار وأساطير» الصادرة عام 1960 في بيروت، مذيلةً بالتاريخ 29/11/1946، وهنا ينتصر التاريخ للسياب على حساب الملائكة، ولكن المغفل من النقاد هو المجموعة الشعرية التي أصدرها بلند الحيدري عام 1946، والتي سبقت خلاف الملائكة والسياب فكانت نموذج الخروج عن الفراهيدية الشعرية، وفيها يرد ما يلي:
أنا أهواك ولكن
غير ما تهوين أهوى
أنا أهواك جراحاً في حياتي تتلوى
كلما هدهدتها
أهدت إلى العالم نجوى
* ديوان خفقة الطين – بلند الحيدري.
ولكن المثير للتساؤل بعد مضي هذه السنين لماذا هضم دور الحيدري حتى من مجرد إقحامه في السجال؟ لا بل استبدل باسم عبد الوهاب البياتي الذي لم ينتصر لأسبقيته إلا نفسه وما ندر من الباحثين. حين نبحث في الإجابة عن تساؤل كهذا علينا البحث في شخصية الحيدري وحياته المضطربة التي لم يكن فيها سوى إنسان صامت يكتب، ويرسم ويبتعد عن الريادة التي خطفت منه، فلم يصل إلى أي استحقاق في الريادة حتى في ريادة التشرد التي ابتدأها منذ كان في السادسة عشرة من عمره حين هجر منزله، فقد اختطف هذه الريادة منه صديقه الشاعر غريب الأطوار حسين مردان فذاع صيته شاعراً ومتشرداً في أرجاء بغداد. أما بلند الحيدري الذي غادر منزل أسرته رافضاً النظام الأرستقراطي الصارم الذي فرضته عليه العائلة الغنية التي تنتشر في شمال العراق على أكثر من مدينة مهمة منها السليمانية وأربيل وكركوك، ولكنه رفض هذه الإمكانات التي منحته إياها العائلة لا بل فضل أن يعمل عرضحالجياً أمام قصر العدل في حين كان خاله داوود باشا الحيدري وزيراً للعدل آنذاك، فكان هذا المنفى الأول، لكن المنفى الثاني حصل عليه الحيدري حين حصل انقلاب8 شباط عام 1963، وكان للحيدري أخ اسمه جمال من قيادات الشيوعيين الذين أطاح بهم الانقلاب وسجن الحيدري ثم خرج بعدها إلى بيروت فكان المنفى الثاني، وهنا أطفئ النور على بلند الحيدري فتحاشته أقلام النقاد العراقيين، وابتعدت عنه الدراسات البحثية لطلاب الشعر والآداب، فحتى عام 2015 لم يكن صدر حول شعره سوى دراستي ماجستير، ودراسة دكتوراه يذكر فيها شعره نموذجاً بين عدد من الشعراء، فبلند الحيدري لم يستطع أن يهادن الحكم في العراق، فنفته السياسة مرة وآزرها النقاد مراراً، ولكن الشعراء الذين عاصروه شهدوا له بأهميته فمعروفة جملة السياب حين قال: «هناك عدة شعراء أكن لهم كل تقدير وإعجاب وعلى رأسهم بلند الحيدري» ولعبد الوهاب البياتي رأي يقول: «إن بلند الحيدري مبدع في أساليبه الجديدة التي حققها وفي طريقته التي لا يقف فيها معه إلا شعراء قلائل من العراق» وقد اعتمد الحيدري الذي ميزه اسم الكردي بلند الذي يعني «شامخ»، على التقابل بين المتضادات في شعره، وارتكن إلى البحث في موضوعي الليل والزمن، وتحديداً الماضي، وكانت حساسية شعره وإغراقها في الحزن والانكسار من أهم أدوات الحداثة الشعرية وقتها، وقد ذكر ديزموند ستيوارت حين ترجم قصائد الحيدري إلى اللغة الإنكليزية في مقدمة أوردها لهذه الترجمة: «إن شعر بلند يعبر عن الشعور بالخيبة الذي يكتنف العصر الحديث، وهذا التعبير أصدق من قصائد الحماسة المتعمدة التي ينظمها الشعراء السياسيون، حيث يهاجمون جميع الناس لجميع الأسباب».
وبعدها توالت الترجمات لشعر الحيدري، لكن ذلك كله لم ينقذ حقه في الأسبقية التي لم يعتنِ هو بها أصلاً ولا سعى إلى إيضاحها، فكان يعتمد القصيدة طريقاً لوصوله والبحث والفكر، مبتعداً عن أي سجال، حتى إنه لم يقدّم للآخرين توجهه السياسي الليبرالي في حين اتهمه الجميع وأكدوا أنه كان شيوعياً نظراً لعدائيته للبرجوازية من جهة، ولقربه من الشعراء والمفكرين الشيوعيين في الحياة، ووقوفه إلى جانبهم دون تبني انتمائهم السياسي. وعليه نستطيع الجزم أن الحيدري الأول زمنياً في نشر قصيدة التفعيلة، والأخير من حيث الاهتمام والنقد والتمحيص في شعره وإبداعه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن