ثقافة وفن

القصة الحقيقية لجائزة ستالين التي منحت للشيخ محمد الأشمر

| شمس الدين العجلاني

رويت عدة روايات عن جائزة ستالين التي منحت للشيخ المجاهد محمد الأشمر، وجميع هذه الروايات أغفلت سبب منحه هذه الجائزة!؟ والأحداث المرافقة لها؟ علماً بأن الشيخ الأشمر كما سيمرّ معنا في السطور التالية كان شيخاً منفتحاً على العلم والثقافة، وعرف الإسلام على حقيقته الحضارية..
بالعودة للصفحات المطوية من تاريخنا نقرأ أسباب زيارة شيخ الإسلام المجاهد محمد الأشمر إلى موسكو وبكين، ولماذا منح جائزة ستالين؟
لنقرأ السطور التالية ففيها الكثير مما لا نعرفه من قبل، وقد نتبين الْخَيْط الأبيض مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ، ونعرف تماماً كيف كانوا وما يزالون يعملون على «التضليل الإعلامي»:
محارب من أنصار السلم
الشيخ محمد الأشمر، أو الأحمر كما أحب البعض تسميته وكما سمته صحافة أيام زمان منذ منح جائزة ستالين في الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تمنح فيها هذه الجائزة لرجل عربي…
في عام 1956م حضرت إلى دمشق بعثة خاصة من الاتحاد السوفيتي لتقدم للشيخ الأشمر جائزة ستالين للسلام، والأشمر كان رئيس أنصار السلم في سورية ولبنان وأقيمت بهذه المناسبة حفلة بدمشق حضرها أنصار السلم وأنصار الشيخ أيضاً من سورية ولبنان.
والأشمر لم يكن شيوعياً ولم يناصر الشيوعية، بل كان وطنياً، قومياً وسورياً قاتل في فلسطين أكثر من مرة، وجاهد في الثورة السورية ضد المحتل الفرنسي وكان من أبطالها، وكان يردد دائماً كلما ذكر اسم فلسطين: «لن نتركها وسنسفك دماءنا لاستردادها».
قال الأشمر بعد منحه الجائزة: «صحيح أنني من أنصار السلم ولكن ذلك لا يعني أبداً أن يتنازل أنصار السلم عن أرضهم وتراثهم وأخلاقهم وعاداتهم».
وحول ذلك ذكرت مجلة الصياد اللبنانية في عددها رقم 603 تاريخ 22/3/1956: « حضرت إلى دمشق بعثة من الروس لتقدم له (المقصود محمد الأشمر) الجائزة وأقيمت بهذه المناسبة حفلة في إحدى دور السينما حضرها أنصار السلم وأنصار الشيخ أيضاً. والجائزة عبارة عن تسعة آلاف جنيه قدمتها روسيا وعباءة مزركشة قدمها مسلمو روسيا لرئيس أنصار السلم في سورية ولبنان…».

لماذا كرّم الأشمر
هنالك حكاية تروى عن سبب زيارة الأشمر لكل من موسكو والصين، تقول الحكاية، إنه في يوم من الأيام حمل البريد للشيخ الأشمر نشرات من السفارة البريطانية بدمشق عن «الإسلام والمسلمين في روسيا» وتذكر هذه النشرات حال المسلمين في روسيا، والاضطهاد الذي يعانون منه: «عقائد وحرمات توطأ وحرمات تنتهك وأعراض تهتك، وشعوب تباد عن آخرها بنسائها وأطفالها ورجالها..».
قرأ الأشمر هذه الكتيبات ولم يغمض له جفن، فسطر كتاباً مطولاً إلى مفتي القافقاس، الذي ورد ذكره في نشرات السفارة البريطانية، يلومه فيها على التقاعس في حماية الإسلام في بلاده وفقاً لما جاء في النشرات البريطانية… وبعد مدة من الزمن ورد للشيخ الأشمر رداً من مفتي القافقاس يقول: «إذا كان أمر المسلمين يهمك ويعنيك إلى هذا الحد فلماذا لا تشرّف بلادنا وترى بنفسك لأن من رأى، ليس كمن سمع» جمع الشيخ الأشمر في مضافته بعض أهالي حي الميدان وأعيانه وطلب مشورتهم في الأمر.. فأجمع الرأي أن يذهب الأشمر إلى روسيا ويأتي بالخبر اليقين ويتبين الْخَيْط الأبيض مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ، شاع خبر عزم الشيخ الأشمر على السفر إلى روسيا، ووصل مسامع القنصل البريطاني بدمشق هذا الخبر، فأرسل على الفور رسولاً للشيخ يطلب موعداً مستعجلاً لحديث مهم مع الأشمر، والقنصل كان يتقن العربية الفصحى.
حضر القنصل لمضافة الأشمر، وبعد حديث المجاملات قال له: «الشيخ مسافر بعون اللـه إلى بلاد الكفر والإلحاد»؟ فسأله الشيخ وأين هذه البلاد، فكان رد القنصل سريعاً روسيا؟! وأعاد وقدم للشيخ مجموعه النشرات الصادرة عن السفارة البريطانية حول اضطهاد مسلمي روسيا، ودار حديث مطول بين الشيخ والقنصل حول ذلك، إلى أن قال الشيخ، هذه النشرات هي التي دفعتني للعزم على السفر إلى روسيا.

الأشمر في موسكو وبكين
أعلم الشيخ الأشمر المعنيين في الأمر بموسكو عزمه للقدوم إليهم، ولأول مرة في حياته يركب الأشمر الطائرة وكانت وجهتها إلى مدينة موسكو، وصلها صباح يوم الجمعة، والشيخ كان يراوده الوسواس بصحة معلومات السفارة البريطانية، وبمجرد أن وطئت قدماه أرض المطار، أراد مفاجأتهم، فطلب من مرافقيه أن يصلي صلاة الجمعة في جامع موسكو قبل التوجه إلى الفندق، وكان له ذلك، فاتجه موكب الأشمر مباشرة إلى جامع موسكو ويقول الشيخ عن ذلك: «رأيت العجب، لم يكن هناك واحد أو اثنان أو مئه أو مئتان، ولكن حشدٌ ليس فيه موضع قدم خاشعين قانطين مولين وجوههم شطر المسجد الحرام، وجلست بينهم وأخذت أتأملهم وأكاد أقلب فيهم كيلا يكونوا شموعاً أو خشباً مسندة… خطب الأمام وأقيمت الصلاة وأنا في دهشة، وأسأل نفسي أحقاً ما أرى في بلاد الكفر والإلحاد؟ جاءني الإمام وعانقني ورحب بي ووقفت وسط المصلين.. وتدافع الجميع إلي وأخذوا يتزاحمون حولي للاقتراب مني ولمسي تبركاً بي.. والقيت عظة طويلة، نعم عظة في قلب موسكو».
وكانت المفاجأة كبيرة للأشمر حين هم للخروج من الجامع: «رأيت أشباحاً بيضاء تخرج منه في صف طويل.. فسألت الإمام ما هذا فقال نساؤنا كن يؤدين الصلاة.. وطلبت أن يأخذني إليهن على الفور، وحينما قال لهن إنني من بلاد العرب التففن حولي وأخذن يتبركن بي ويربتن على كتفي وينظرن إلي بمحبة ورعاية».
استمرت زيارة الشيخ محمد الاشمر إلى الاتحاد السوفيتي قرابة الستة أشهر زار خلالها الصين أيضاً «وكانت هذه بداية عمر جديد لي.. فقد قضيت ستة أشهر أضرب في أرجاء ذلك العالم الغريب، وأرحل من موسكو إلى بكين إلى براغ إلى بوخارست، وفي كل بلد بلا استثناء أجدهم أقرب إلى اللـه من أهل النشرات والدعايات..».
تعرف الأشمر خلال هذه الأشهر السته على أحوال المسلمين في الاتحاد السوفيتي وجمهورية الصين، وتعرف على عدد من رجالات الدين والدولة في كلا البلدين، كما تعرف هؤلاء عن شخصية دينية سياسية مكافحة من أجل بلادها، والسلام بين الشعوب، وكان الأشمر في زيارته هذه محط إعجاب وتقدير على المستويات كافة في موسكو وبكين، وهذا ما دعا المعنيين بالأمر في موسكو لتكريم الشيخ محمد الأشمر بمنحه جائزة ستالين.
وقبل مغادرة الأشمر لموسكو للعودة إلى دمشق، طلب من مرافقيه أن يخاطب العالم من دار إذاعة موسكو، فأخذوه إلى دار الإذاعة: «سألتهم أي مذياع يسمع العالم أجمع.. ضحكوا ودخلوا بي إلى غرفة كبيرة، ووقفت أمام الميكرفون وقلت ما قدرني اللـه على أن أقوله..».

جائزة ستالين
هي جائزة ستالين الدولية لتعزيز السلام بين الشعوب، هي جائزة سوفيتية دولية ذات أهمية معنوية تمنح سنوياً لمواطني الدول الأجنبية بصرف النظر عن توجهاتهم السياسية وانتماءاتهم الحزبية وعقائدهم الدينية والفروق العرقية على إنجازات متميزة في مجال الكفاح من أجل السلام بين الشعوب.
تم تكليف لجنة خاصة لمنح هذه الجوائز، وكانت هذه اللجنة تؤلف من قبل رئاسة مجلس السوفييت الأعلى وتتألف من رئيس و14 عضواً من الشخصيات الاجتماعية من الاتحاد السوفيتي وممثلي بلدان أخرى، ويحق للجنة منح خمس جوائز سنوياً. كان الفائزون بالجائزة يستلمون شهادة الجائزة وميدالية ذهبية ومكافأة مالية.

الأشمر وجائزة ستالين
كان الشيخ الأشمر رجل فكر وعلم، رجلاً مكافحاً مدافعاً عن وطنه، مناوئاً صلباً للمحتل، بفكره النير كان يعلو على الطائفية والمذهبية والإقليمية، وصلب المقاومة للاحتلال الذي كان دائم العمل لخرق التعايش الوطني الإسلامي المسيحي في بلادنا، كانت رسالته واضحة، الوطن لمن يدافع عنه ويحميه ويصونه. لقد امتاز الشيخ بحس وفكر وطني اجتماعي رفيع. وهذا كله جعل الأشمر محط محبة لكل أبناء الوطن، ومحط تقدير واحترام في العالم الحر، لذا سعت إليه جائزة ستالين الدولية لتعزيز السلام بين الشعوب.. وكان أول عربي ينال هذه الجائزة.. وقدرت مواقفه الوطنية عالمياً فاختير عضواً في مجلس السلم العالمي.. حضرت إلى دمشق بعثة من الاتحاد السوفيتي وقلدت الأشمر جائزة ستالين العالميّة للسلام بين الشعوب، تقلدها بدمشق يوم 17/3/1956م، وأقيمت بهذه المناسبة حفلة كبيرة في إحدى دور السينما حضرها جمهور غفير من أبناء الوطن وأنصار السلم وأنصار الشيخ أيضاً. وإضافة للجائزة قدم له مبلغ تسعة آلاف جنيه قدمها الاتحاد السوفيتي، وقدم مسلمو روسيا للشيخ عباءة مزركشة تقديراً له ولمواقفه النبيلة.
ويروي من عاش تلك اللحظات أن دمشق بكل ناسها وأحيائها احتفلت بتكريم شيخها، وأن ساحة المرجة اكتظت بالجماهير الزاحفة إلى حي الميدان للمشاركة في تكريم هذا الرجل الوطني بامتياز، المقاتل الصلب لكل من اعتدى على الوطن، الشيخ صاحب الفكر النير الذي أيقن أن الدين هو حب اللـه والوطن.

ملاحظه
• الجمل التي بين قوسين هي حرفية كلام الأشمر خلال مقابلة معه في مجلة صباح الخير العدد 56 لعام 1957 م.
• المراجع: أعداد مختلفة من مجله الصياد لعام 1955 و1956، أعداد مختلفة من مجلة صباح الخير لعام 1957 م.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن