ثقافة وفن

غزالةُ السّرد في قصيدة لقمان محمود … شخصيات تؤدي دوراً وحواراً على غرار السرد

| نجاح إبراهيم

«لم يترك الأقدمون شيئاً إلا وقالوه!».
انطلاقاً من هذه المقولة، التي تعطي براءة الاختراع للسلف، يمكنني أن استبدل كلمة « قالوه» بـكلمة «أبدعوه» لأن الإبداع هو الرّغبة الآثمة التي تأخذ سمة الخلود، في حين القول معظمه يكون شفهياً قابلاً للاندثار.
ولعليّ أخصّ ما أرّثه السلف من إبداع فكري طال الأدب بشكلٍ خاص. فقد كان وحدة متكاملة فيما سبق وما يزال، قال ذلك « كروتشه» مؤكداً أن «الأدب جنس واحد»، يتشرّب السّرد بالشعر، والعكس صحيح.
فإذا عدنا إلى الشعر الجاهلي وقرأنا معلقة امرئ القيس، كما غيره من الشعراء، وجدنا أن السّرد يهيمن فيها، بكلّ ما يتطلبه من حوار وشخصيات وحبكة وخاتمة:
«ويوم دخلتُ الخدرَ خدر عنيزة
فقالتْ لك الويلات إنك مرجلي
تقولُ وقد مال الغبيط بنا معاً
عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانزل
فقلتُ لها سيري وأرخي زمامه
ولا تبعديني من جناك المعللِ
يمضي الشاعر بالسّرد حتى تتضح لنا قصته مع عنيزة وذلك من خلال معلقته، فنتعرف على مراحل الحكاية وفحواها.
وهذا لا يقف عند الشعراء في العصور القديمة، وإنما امتدّ حتى عصرنا الحديث، وقام بإعادة التجريب عدد كبير من شعرائنا، أمثال صلاح عبد الصبور، بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، البياتي، وآخرين، حيث غلب الخطاب القصصي في قصائدهم، التي لا تخلو من حادثة تُسرَد، وشخصيات تؤدي دوراً وحواراً يُتبادل على غرار السّرد بأجناسه المختلفة.
في ديوانه « القمر البعيد من حريتي»، يحاولُ الشاعر لقمان محمود بالإتيان بشيء مغاير تماماً، وإن استقى الفكرة ممن سبقوه، بيد أنه اجتهد في أن يجدّد فيها، محاولاً اقتراف تجريب مغاير.
وما التجريب إلا سمة المبدع حيث يرغب بتأريث نار الدّهشة وأسر المتلقي بطرق جديدة للنصّ، باحثاً عن أدوات من شأنها أن تُغْني الجنس الأدبي، رغبة بالارتقاء والبحث عن المغاير واللافت.
وتجربته جاءت كسراً للقوالب المعهودة من ضمّ السرد إلى الشعر بشكلٍ متمم، وليس قابعاً كما عهدناه داخل القصيدة، وذلك بلغة مكثفة، متحفزة تدلي برموزها ودلالاتها كما لو كانت لغة القصيدة، فبهذه اللغة يقترب من حرمها، يبقي بارقاته فيها، وعند بواباتها، يلقي بسرده، سرد حكاية القصيدة العطشى، فينطوي على حبكة وشخصيات وحوار، وخاتمة موجعة كجرح، بلغة سردية لا تخلو من جيناتها، وألقها الشعري، وامتدادها الموحي.
في قصيدة حلم بحاجة إلى النوم» يبدأ كالعادة بالشعر:
صدقيني/ حتى ولو كنت زهرة العباد/ سأدور نحوك
لا نحو الشمس.
هذا المقطع الأنيق، المترف ببوح رجل لأنثاه، لا يكفي عند لقمان، وإنما يروح في سردٍ بهيّ ليقول موضحاً:
«سأنسى مراقبتي المستمرة لدوار الشمس، لأنني لم أشعر يوماً بالدوخة، وسأنسى شباكي الذي سقطتُ منه من دون أن يصيب قلبي أي كسور، وسأنسى عادتي في إطفاء المصباح كلما دخلت الغرفة، لأنني لم أكن أرى قلبي إلا في العتمة… ».
لم يرغب الشاعر أن يلقي بفلاشاته، أو بروقه ليمضي ليترك الباب مفتوحاً أمام قارئه، فالحالة التي يعيشها يتمسّك بها، وتتمسّك به، لهذا يجعلنا نتأبطها معه، لنشاركه المشاعر النبيلة، ونستمع إلى نثره الذي يشابهه شعراً.
«سأمزق ستائر التراب/ساتراً/ ساتراً / لأرى من الشبك الترابي
كائناً يتحول إلى إنسان/ فيخرج من ظله غزالة فيسلخها
فيخرج من ظله خنزير/ فيستسلم لذهوله
كائن كان/فانحنى بكامله
ليرى ما سيمضي».
هي رغبة في داخله كي نتعاطف مع طموحه للتفرد، ومع انفعالنا، هذا السّرد لم يكن جملاً فحسب، وإنما يكون قناعاً أو مرآة، يبتغي الشاعر من خلاله أن يضيف شيئاً إلى عبارته المختزلة، المكثفة، فيلحق القصيدة بالنثر الآتي: « عشرون رجلاً طاردوا غزالة من «نصيبين» إلى «عامودا»، وعندما استصعبوا الإمساك بها، استراحوا على مقربة من النهر الجاري، حينها اقتربت الغزالة، فاستسهلوها، وانكبوا على دموع أعيق سلخها.».
سرد لقمان محمود يختلف، إنه ولا شك إضافة، تنأى عن حادثة تروى في قلب الشعر، كما فعل الشعراء السابقون، إنه سرد منفصل عن جسد القصيدة، طافح بالرؤى، والتمرّد على سكونية ماضوية، اتبعها الكثيرون، وكأنما يريدُ بهذا الأسلوب المطعّم أن يعانق الأرحب، ليشكل عملاً مجنوناً مثيراً ومدهشاً كدهشة غزالة فرّت من أيدي الصيادين؟! وحين ظمئت الرّوح انساقت إلى النهر لتشرب، وتمتلئ انبهاراً، وقد هيؤوا أنفسهم ليحصوا دمعها وهي تسلخ.
لم تكن حكاية الغزالة واضحة في القصيدة، على حين في السّرد نتعرف جيداً إليها، وإلى معاناتها وطريقة مقتلها، هي حكاية رجل قُتل ولداه «ابنته وابنه»، وأقام حزناً في مقبرة «عامودا»، وقرب النهر سكن في كوخ، وراحوا يطلقون عليه لقب مجنون، لأنه طوال النهار يركض وراء غزالة، يتوسل إليها أن تقف لأنه تعب من الرّكض.
في قصيدة « سلاماً لصعود الموتى» ثمّة ألم يصّاعد من الشعر، ليمضي مواكباً سفره في السّرد. أحداث مؤلمة لا يكفيها الشعر لتقول كلّ شيء، تريد جنساً أدبياً آخر، رديفاً، لتلقي بحجمه فيه.
«محتشداً بالموت/ أصعد سلالم الغيبوبة/ لأخبر أمي
كي لا تنتظر سنابلها/ أمي لا تنتظري/ فحنطتك ضدك
لكني محتشد بالموت/ والوقت طبيب متأخر
يرفع السلالم/ لصعود الموتى».
يتابع سرداً ليضيف أحداثاً، وليس ليفسّر، أو يشرح، فيقول: «فوقعت كمن يقع في نوم سبقه نوم آخر، ثم يمضي لينام وإلى الأبد، تاركاً لغيبوبته تقشير الوقت أو وضع صيغة نهائية لمسألة الانتحار..».
يتابع ما جرى له في غيبوبة الموت، حيث أريد منه أن يكتب وصيته، التي استهجن كتابتها، وحار من فشله، ولكن الوقوف مع الذات أمام مرآة العمر جعله يرفع الحجب، فينطلق بغناء ليسيل ماء من المرآة.
إنّ الشاعر لقمان لم يغب عن قصيدته، ولم يفقد السلطة عليها، بل استمدّ منها زيتاً لقنديله، ليروي على ضوئها المزيد من التداعيات المؤلمة- لكونه شاعر قضية- التي تتابع، كحريق سينما عامودا، الذي أسفر عن حرق لحوم المتفرجين، فأزخمت الرّائحة الأنوف لأجيال.
إن مواكبته لنصه المطعم بجنسين أدبيين، جعله نابضاً بالحياة، ومانحاً كل القراء على اختلاف مستوياتهم، مزيداً من المعايشة الخلاقة، المتواصلة، لأنه سيشعر بأن النصّ امتداد له.
فبهذا التطعيم يواكب الشاعر ما تقوله قصيدته، كما غزالته العطشى، التي ترغب في أن تقول الكثير عن ألمها، ومعاناتها، ولم تستطع إلا عن طريق دمعها الذي يسرد ألف حكاية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن