ثقافة وفن

موهبة!

| غسان كامل ونوس

بعض الناس محظوظ بالموهبة، التي ليست من نصيب الجميع، ولا من نوع واحد، أو في مجال وحيد. ومن المواهب ما تنهض بيّنةً مؤتلقة مشعّة، ومنها ما تكون خدّجاً أو خامة، لا تزال تحتاج إلى رعاية أو تنمية أو تشذيب، وهناك مواهب أخرى تكون مضمرة، أو كامنة، تتطلّب كشفاً وإعلاماً وإعلاناً.
ومن المفارقات الظالمة المظلومة، أن من أصحاب المواهب من لا يعرفون ما اُختُصّوا به، وما هم مميّزون بامتلاكه، أو بحضور إمكانيّات الحصول عليه، ولا ينتبهون إلى ذلك، ولا ينبّههم أحد إلى موهبتهم؛ فتختنق، أو تتبدّد، أو تضيع؛ فيخسر الشخص والمجتمع، والبلد الذي ينتمي إليه صاحب الموهبة، أو يعمل فيه.
وقد يخسر الشخص الموهوب أيضاً، إذا بالغ في عرض موهبته، وحاول فرضها على الآخرين بالقوّة الذاتيّة، أو بمعونة آخرين، أو بالادّعاء والمفاخرة؛ فيسيء إلى موهبته، وإلى آخرين لديهم مواهب مماثلة، أو مشابهة، أو في ميدان واحد، إذا ما كان سلوكه منبوذاً، وأداؤه منفّراً، وبات متعالياً مغروراً. ولن ندخل في مناقشة أخلاقيّة الموهبة، أو حياديّتها، وارتباطها بالموئل والبيئة والمسار والاستثمار!
فلا شكّ في أن الموهبة قيمة مضافة؛ بل ثروة، ورصيد، لا لشخص حاملها فحسب، بل للناس جميعاً، وهي مدعاة إلى الاحترام والتقدير في أي زمان ومكان، إذا ما تمّ استثمارها فيما هو مفيد ومجدٍ؛ وجميل؛ بل مطلوب من المهتمّين القادرين المسؤولين الإسهام في اكتشافها، ببرامج ومشروعات متّصلة، وليست عارضة أو مناسباتيّة؛ كما أن في إفساح المجال للمبادرات والمغامرات المحسوبة، احتمالاً أكبر للوصول إلى بعض الإمكانات المغمورة، وبلورتها ورعايتها وتعميمها. ولا بدّ من تأمين البيئة الحاضنة المناسبة لرعايتها وتشجيعها؛ وصولاً إلى نضوجها، ومن ثمّ تعميمها واستثمارها. ومن المهمّ إشهارها إعلاميّاً، والاحتفاء بها علناً وبشكل جدّي؛ تحفيزاً للآخرين، وألا يتمّ التعامل معها من باب أداء الواجب البارد، أو الشكر العابر، الذي لا يُغني ولا ينمّي ولا يُعوّض؛ كما يجب ألا ينسحب الإنجاز إلى «النافذ» في القطاع الذي ظهرت فيه؛ أو يُشدّ إليه، فيغدو المسؤول هو الملهم أو الموهوب؛ بدلاً من عاملٍ لديه أو موظّف في دائرته، وهو الذي يكرَّم، ويظهر على الملأ بأعطياته المحدودة و«المرصودة»؛ فيما يبقى الموهوب ممنوناً على الذِّكْر، إذا ما اُستذكر، وقد يعود سريعاً خائباً إلى دائرة النسيان أو الإهمال؛ إلا من كان جريئاً واثقاً قادراً على الخطو في الدروب وحيداً، أو بمساعدة آخرين؛ مضحّياً مغامراً محموداً. ومن الناس من يبالغ في عرض إمكانيّته، وإشهار ميزاته؛ فيستخدمها سلاحاً للنيل من الآخرين، أو تصغيرهم، أو التطاول عليهم، هم الذين يعملون في الكار نفسه، أو في سواه. ومنهم من يسوّقها، ويتاجر بها، ويبتزّ الناس؛ وفي هذا إساءة إليها، وإلى قيمتها وفحواها ودلالاتها، ومعناها، الذي يتجاوز كلّ ذلك؛ فالموهبة روح هائمة، طامحة، تحتاج إلى أن تتجسّد، وهي لا تعبأ بالقالب أي قالب، مادّياً كان أو كائناً حيويّاً، أو لا تقف عنده، ولا تنتظره، أو ترجوه أو تتذلّل إليه؛ لكنّها قد تنطلق منه، وتفرح به، تحضّه، تحفّزه، تنفحه، تطير به، تحاول أن تخرجه من قيوده المزمنة أو حدوده الملموسة أو المتخيّلة المتوهّمه؛ وهو يحاول أن يحدّ من جموحها، ونزوعها إلى الفضاءات المفتوحة، والآفاق الممنوحة؛ فيقسو، لعلّه يقسو قليلاً أو كثيراً، جهلاً، وتلك مصيبة؛ أو عِلْماً؛ وقد تكون المصيبة أكبر؛ ومنه ما يمكن أن يكون بِنيّةٍ ليست معكّرة؛ أو في الأمر أنانيّة أو استئثار؛ لتبقى في موئلنا، وتعطي ثمارها في أحيازنا، وتفرّخ خصوبتها في حقولنا؛ مع بعض الخوف عليها، وعلى نتاجها القيّم من أن يضيع في الخلاء، وأن تُنثر خلاصاتها في بيئات لا تعرف قيمتها، ولا تقدّرها حقّ قدرها؛ وقد لا نفعل نحن أيضاً، فنشدّ القماط أكثر على الروح الوليدة، ونشدّ في الحضن أكثر، فتكاد تختنق، ونقبض على أكتافها بأكثر ممّا ينبغي، فتنفر أو تجهض، أو تجدب!
ومن الحبّ ما قتل!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن