ثقافة وفن

ما جدوى التاريخ؟!

| د. علي القيّم 

دخل مكتبي والغضب يعلو وجهه، وبعد السلام، قال: تحدثنا دائماً عن التاريخ، يا أخي ما جدوى معرفة الماضي؟.. التاريخ يديم الأحقاد، ويحفظ حرارة البغضاء، ويمنع السلام من أن يستوي على الأرض، ويعمل على تجميد الأمم على مواريثها العتيقة، وتعطيل قوى التقدم والإبداع، وبالتالي تعريض المجتمعات إلى التخلف، ثم التهافت.. ثم هل يمكن الحياد في التاريخ؟ هل يستطيع المؤرخ أن يتحرر من عاطفته الوطنية والشخصية؟
قلت: طوّل بالك، التجنّي على التاريخ لا يريحنا منه، لأنه في نفوسنا، وهو حقيقة يجب إدراكها، وهو في نفوسنا، قبل أن يكون في الكتب، هو نتاج تفاعل الحاضر مع إرث الماضي.. وما دام للمرء ذاكرة يستند إليها في سلوكه، فهو مؤرخ شاء أم أبى، والتاريخ هو عنصر التوازن في شخصيته، وبتعبير آخر «التاريخ هو ذاكرة المجتمع» حسب تعبير الدكتور المؤرخ عزت النص.. حياتنا صيرورة مستمرة، هي نهر له نبع ومصب، ولا يمكن أن يستغني المصب عن النبع، كل شيء في هذه الحياة هو تسلسل، ونحن مدفوعون بغرائزنا إلى تعليل الحوادث التي نشهدها، وتعليل الحاضر منوط بملابسات ما قبل الحاضر، الذي هو التاريخ.
قال: بعض الكتّاب، يدعون إلى الثورة على التاريخ، وقطع جذور الماضي، وبناء المستقبل على ركائز جديدة.
قلت: حتى الثورة على التاريخ، إذا كان فيه ما يثار عليه، تقتضي أولاً معرفة ذلك التاريخ، الذي فيه محامد ومثالب، وليس دور المثالب بأقل شأناً في عبرة التاريخ من الأمجاد والمآثر.. تاريخ العرب سجل لانتصاراتهم ولتراخي عزائمهم، وهو كل متكامل، يجب ألا تبتر منه صحائفه السوداء، وأن تصنع فيه الأمجاد وتضخم البطولات.. التاريخ هو قبل كل شيء مدرسة للصدق، والحقيقة هي دوماً أنفع للعبرة الوطنية من اختلاق الحقيقة..
قال: التاريخ خميرة تجميد، وعامل وقوف، ووسيلة حجر على القوى المتفتحة للخلق والإبداع والابتكار والتطور..
قلت: في كل حضارة أسس خالدة، وأخرى زائلة، والمهم هو تمييز العمد الثابتة عن المظاهر المتغيرة، ولعل خير ما نستوحي من الماضي، هو تلك الطاقة المعنوية التي دفعت المصلحين إلى الإصلاح، والمجددين إلى التجديد.. من أبطالنا الشجعان نستلهم شجاعتهم لا أساليبهم في الطعان، ومن علمائنا الأفذاذ نستمد قدرتهم على البحث والغوص.
الفرد، امتداد لأمته لا تكرار لها، وهو متضامن مع الأجداد على إتمام مهمتهم لا على إعادة سيرتهم، ومن الافتراءات على التاريخ الزعم بأنه يتكرر بينما هو يتطور، ومن الجهل بالحضارة الوهم بأنها إعادة مستمرة بينما هي خلق دائب لا يفتر.. التاريخ على رأي المؤرخ العالمي أرنولد توينبي، هو حضارة لا أقل ولا أكثر، حضارة تنشأ عن تحدي البيئة الطبيعية المستمرة للبشر، واضطلاع الأقلية المبدعة في الأمة، برد الفعل على ذلك التحدي.
قال: ولكن هناك من يحاول تبديل مسيرة التاريخ، ويكتبه بما يحقق هواه وأغراضه الدنيئة ويقوم بالتضليل والكذب، وتغيير مجرى الأحداث والاصطفاء.
قلت: إن واقع التاريخ يحملنا على شيء من الاحتراس، فليس لأي أثر قيمة مطلقة في جميع الظروف والبيئات، ويجب ألا ننظر إلى التاريخ إلا لنستمد منه دعائم قوية تصلح لبناء مجتمعنا الجديد، وألا نعتز بأمجادنا القديمة إلا لإصلاح حاضرنا، وبناء مستقبلنا.. التاريخ يا صديقي لا يمكن أن يفرض علينا بكتاب مدرسي.. الحقيقة في التاريخ يجب إدراكها، من اللغة التي ننطق بها، والنغم الذي نهتز لسماعه، والعادات التي تتحكم فينا، وشكل الحكم الذي يسرنا، والغذاء الذي نقتات به.. كل ذلك تاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن