اقتصاد

لهذه الأسباب نشكك

| علي نزار الآغا

يقولون إن الرياضيات هي لغة المنطق، وأما في زمن الحرب، فنقول إن الرياضيات هي لغة الواقع غير المنطقي، لما تحمله من وجع وقهر ومآس.. فالرقم «صفر» وحده، يحمل في جعبته الكثير من قصص الفقر المدقع، بعد أن حلّ ضيفاً ثقيلاً في اقتصادنا، يمين الليرة.
فاليوم بعد أن تجاوز سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية مستوى 490 ليرة، لم يبق لليرتنا سوى نحو 10% من قيمتها التي كانت عليها أول أيام الحرب عندما ارتفع الدولار إلى 49 ليرة.
بعد هذا الصفر الجديد الذي اصطف يمين الليرة، أصبح المواطن بحاجة إلى أكثر من 10 أضعاف دخله الذي كان قبيل الحرب، ليتمتع بمستوى المعيشة نفسه. وهذا أمر غير مسبوق في التاريخ السوري الحديث، إذ سجل أكبر انخفاض لليرة بين الأعوام 1984 و1990 إذ ارتفع سعر صرف الدولار من 8 ليرات إلى 50 ليرة، وأصبح المطلوب في العام 1990 من 6 أضعاف الراتب الذي كان للحفاظ على مستوى المعيشة في 1984 بالحدّ الأدنى، (هذه الأرقام تقديرية لغياب رقم دقيق للتضخم لذا تم الاعتماد على سعر الصرف كمؤشر ذي قيمة علمية).
أما كيف وصلنا إلى هذه الحال اليوم، فالقصة مرتبطة بالحرب وتداعياتها، والعالم السرّي الذي توافرت له عوامل الأمان، في ظل ضعف الأداء الحكومي، حيث تنشط عمليات التهريب والاتجار بالمخدرات والأسلحة والمضاربات بالعملة والفساد.. وغيرها.
وإذا كانت الحرب وتداعياتها الاقتصادية أثرت في الليرة بنسبة محددة، فإن الأثر الأكبر هو للمضاربات والأنشطة السرية كتهريب الدولار، التي تعمل في منطقة آمنة، منذ خمس سنوات وحتى اليوم، يحيط بها جدار حماية تعززه يومياً سياسات الحكومة وإجراءاتها المتضاربة والعشوائية، والمسؤولين الذين همّهم الرئيسي تبرير الفشل في ضبط السوق بدلاً من التدبير، وغياب الرقابة والمحاسبة الجدية والشاملة.
وإليكم الأدلة:
في كل مرة يعلن فيها مصرف سورية المركزي بيع الدولار من دون ضوابط عبر شركات الصرافة المرخصة، يرتفع الدولار في السوداء، هل تعلمون لماذا؟ ليتم سحب أكبر كميات من الدولار من المصرف المركزي إلى السوق السوداء بسعر مغر يعوض المخاطرة للشقيعة الصغار الذين يشترون من الشركات من دون ضوابط ويبيعونه في السوداء، فتزداد أرباح التجار من المضاربين الكبار.
والغرابة في الموضوع، كيف ستثبت شركات الصرافة للمركزي بيعها دولارات التدخل؟ وكيف سيضمن المركزي أن هذه الدولارات لن تذهب للمضاربة، طالما لا قيود في البيع؟ من هنا اسمحوا لنا أن نشكك في هذه الآلية التي يمكن أن تستخدمها بعض شركات الصرافة لتغطية مخالفاتها في بيع الدولار إن لم تكن تهربه. كما أن المطلوب هو الحدّ من المضاربة وليس تأجيجها بتوفير الدولار لمن يرغب. مع العلم بأن هذه الخطوة تنقل مسؤولية المضاربة والتلاعب بالدولار كلياً إلى عاتق التجار الذي يشترون لتمويل مستورداتهم من دون ضوابط، وخاصةً أن البيع من دون ضوابط ليس حالة مستمرة، في عملية التدخل، وهذا يعزز الشكوك.
قصة أخرى قديمة جديدة، ماذا تنفع سياسة ترشيد الاستيراد في ظل انتعاش التهريب النظامي وغير النظامي، ألا تصبح سياسة شكلية تزيد الطلب على الدولار في السوق؟ أين الجمارك من مسؤولياتها؟ وأين الحكومة من سياسات متضاربة محصلتها الوحيدة زيادة الفقر؟
يعلم المتابع أن بعض شركات الصرافة مشكوك فيها ولها أنشطة مشبوهة، وهذا ما تابعه عبر شاشة التلفزيون الوطني عندما نشر اعترافات لأكثر من صراف، هم أنفسهم من يتصدرون قوائم بيع الدولار لأغراض التدخل عبر المصرف المركزي اليوم.. فكيف ذلك؟
وماذا حلّ بنتائج التحقيقات التي أجريت مع بعض شركات الصرافة التي أغلقت وتم إيقاف بعض المسؤولين فيها، وتوارى ملاكها الحقيقيون عن الأنظار؟ ولماذا عاودت تلك الشركات نشاطها كما السابق؟ وأين أصبح اليوم مشروع الصك التشريعي الخاص بحماية العملة الوطنية ومن المستفيد من تعطيله؟
اسمحوا لنا أن نشكك بعدم وجود خبراء حقيقيون يديرون عمليات التدخل، وأن نشكك باعتماد المصرف المركزي من وقت لآخر على نصائح بعض الصرافين، وإلا فكيف تفسرون لحاق المصرف المركزي بسعر السوق السوداء، الذي طالما وصفه بأنه سعر وهمي ناجم عن المضاربات وما تروجه المواقع الإلكترونية المشكوك فيها التي غايتها ضرب الاقتصاد الوطني؟
وكيف يربح التجار من مؤونة الاستيراد التي مولت بسعر 385 ليرة للدولار وعلى حساب من خسر المصرف المركزي هذا الفارق؟ وما هدف قرار المؤونة طالما لم يتأكد المصرف المركزي من قدرته على ضبط سوق الصرف؟.. وغيرها الكثير من «الأخطاء» التي لا يسعنا ذكرها، إلا أنها أصبحت معروفة.

هامش:
لامس سعر صرف الدولار أمس 495 ليرة وفق ما تناقلته بعض صفحات الفيسبوك وتطبيقات الموبايل التابعة لها، علماً بوجود تضارب في الأسعار بين تطبيق وآخر، علماً بأن أغلبها يدار وتحدث أسعارها من تركيا، كما هو واضح من اسم بعض التطبيقات، ومنشورات بعضها الآخر.
بدوره حذر مصرف سورية المركزي المواطنين من الانجرار وراء أسعار الصرف الوهمية التي تستمر الصفحات الصفراء برفعها بشكل يومي وخصوصاً أن حركة التداول في سوق القطع حركة بيع فقط من دون شراء.
وأشار المركزي في بيان له أمس إلى أن تجار الأزمة عمدوا إلى نشر أسعار صرف وهمية بغرض تقييم البضائع بسعر أعلى مستغلين فترة الأعياد التي شهدت ذروة إنفاق استهلاكي.
وأكد المركزي أنه مستمر بالتدخل لتخفيض سعر الصرف وسيتخذ جميع الإجراءات الممكنة للحد من التراجع الأخير الذي طرأ على سعر صرف الليرة السورية، لافتا إلى أنه حدد سعر صرف تسليم الحوالات عند مستوى 420 ليرة سورية للدولار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن