الأولى

حدود الانسحاب الروسي

| بيروت – محمد عبيد 

تميل بعض مراكز «التفكير» الأميركية إلى اعتبار إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب جزءٍ من قواته من سورية ليس سوى تظهير زائف لواقع لم يتغير كثيراً. كما يعتقد باحثون آخرون أن بوتين من خلال قراره المشاركة في الحرب السورية ضد الإرهاب في أيلول الماضي قد أسس أرضية صلبة لتقديم نفسه كزعيم دولي عظيم استطاع أن يقود حملة عسكرية محدودة بأقل الخسائر ومن ثم انسحب ليدفع باتجاه حل سياسي فيكون بذلك صانع سلام أيضاً.
ومهما تباينت القراءات والتحليلات لخطوة الرئيس بوتين، غير أن هذه الخطوة المُعَدة سلفاً لجهة التوقيت والجهوزية العملانية للقوات الروسية فاجأت العدو والصديق معاً وأرخت بتداعياتها على وقائع حوارات جنيف لجهة إلزام الولايات المتحدة الأميركية بضرورة الاستفادة من مبادرة موسكو الإيجابية وبالتالي اختبار جدية ونيات إدارة أوباما حول رغبتها بتكريس حل سياسي في سورية قبل انقضاء ولايتها، وكذلك لجهة حشر ما يسمى «المعارضة» السورية من خلال إظهار حيادية اللاعب الروسي ووقوفه على مسافة متساوية بين أطراف الحوار السوري وبالتالي كشف مدى استقلالية هذه المعارضة في اتخاذ قراراتها السيادية وسلوك طريق التفاوض غير المشروط مع الحكومة السورية أو تثبيت ارتهانها المطلق لمشاريع وأطماع قوى إقليمية كالسعودية وتركيا الساعية إلى إطالة أمد الأزمة في سورية وتوظيف ذلك لتحسين مستوى حضورها ونفوذها في التسويات المفترضة.
ولكن على الرغم من هذه الحركة العسكرية- السياسية الروسية، هل بإمكان موسكو فعلاً الانسحاب الكامل من هذا الصراع الدولي والإقليمي على الأرض السورية؟ لاشك أن القيادة الروسية أجرت حسابات دقيقة عندما قررت المشاركة إلى جانب سورية وحلفائها في حربهم ضد الإرهاب التكفيري، خصوصاً أن المباحثات السورية- الروسية التي أدت إلى هذه المشاركة امتدت من العام 2012 حتى نهايات صيف العام 2015 مع ما رافق هذه الفترة الزمنية من تغييرات جذرية في المنطقة والعالم أبرزها: سقوط النظام في ليبيا العام 2011 بتغطية ومشاركة عربية ودولية لم يحسب لموسكو فيها أي حساب، ومن ثم تصاعد الأزمة في أوكرانيا حتى بلغت ذروتها العام 2014 ما اضطر الجار الروسي إلى التدخل المباشر ومواجهة عقوبات أميركية وأوروبية انعكست عليه مشاكل مالية واقتصادية، إضافة إلى التقدم السريع في مفاوضات الملف النووي الإيراني ومحاولة واشنطن استثمار نتائجه بشكل منفرد. كل ذلك وغيره من الأحداث السريعة والمتداخلة وفي مقدمها تحول «داعش» إلى قوة جذب للإسلاميين الكامنين في بعض مكونات الاتحاد الروسي والجمهوريات ذات الأغلبية الإسلامية المحيطة به، دفعت بالقيادة الروسية إلى البحث عن قاعدة ارتكاز صلبة تقف عليها وتخاطب العالم عبرها، في حين لم يتبقَّ لها من الحلفاء أو الأصدقاء سوى سورية.. سورية الأرض الوحيدة في العالم التي سُمِحَ لقوات عسكرية روسية بناء قاعدة عليها مقابل 38 قاعدة عسكرية ولوجستية للولايات المتحدة الأميركية منتشرة في أكثر من قارة، وسورية القضية الفريدة التي أعادت الاعتبار لحق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي بعدما كانت واشنطن قد استفردت بهذا المجلس وحولته وسيلة تشريع دولي لمغامراتها وحلفائها ضد كل معترض أو مخالف لسياساتهم، وسورية الموقع المتقدم لخوض حرب استباقية ضد الإرهاب التكفيري تجنباً لاعتداءات في شوارع روسيا وعلى حدودها.
حتى الآن تبدو الخطوة الروسية «الجزئية» لإعادة ترتيب علاقات موسكو مع واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي غير كافية، وإن كانت توحي بتموضعٍ سياسي جديد تحت سقف ثوابتها في المنطقة وبالأخص منها علاقاتها التاريخية مع دمشق والمستجدة مع طهران. ذلك أن تكريس هذا التموضع وحصد نتائج إيجابية منه يحتاج إلى مقاربة مماثلة من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي تشمل ملفات كثيرة عالقة تلاقيه في منتصف الطريق. بانتظار ذلك، تقع على عاتق القوى الخفية والمعروفة الراعية للمجموعات المسلحة المصنفة إرهابية تحديداً مسؤولية استمرار الانكفاء المحدود للقوات الروسية أو عودتها بزخم أكبر وحاسمة هذه المرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن