ثقافة وفن

ما أحوجنا إلى الجمال؟!

| د. علي القيّم 

تعد قيم الجمال والحق والخير، أسمى القيم الإنسانية في العقل العربي، والجمال بالعربية هو مشترك لفظي يعني الحسن في الفعل، والخَلق والخُلُق، فنقول جَمُلت المرأة إذا حَسُن خَلْقُها أو حَسُن خُلُقُها، والجميل هو الفعل الحسن، وهو المعروف أي الخير، وناكر الجميل هو ناكر معروف الآخرين، وفي الحديث النبوي الشريف «إن الله جميل يحب الجمال».
وقد تغنّى شعراء العربية بقدسية الجمال، واقترانه بالحق، ومن ذلك قول ابن الشبل البغدادي، في القرن الخامس الهجري:
خلقتَ الجمال لنا فتنة
وقلتَ لنا: يا عبادي اتقون
وأنت جميل يحبُ الجمال
فكيف عبادك لا يعشقون؟
لقد أثيرت في الدراسات الفلسفية المتعلقة بعلم الجمال، ونظرية المعرفة، قضية موضوعية الجمال وذاتيته، فيتساءل الفلاسفة، ما إذا كان الشيء جميلاً لأنه يتوافر على خصائص الجمال وصفاته، فيراه كل إنسان جميلاً، أم إنّ الحكم على الجمال ذاتي يختلف من فرد إلى آخر طبقاً لخلفياته وميوله وذوقه؟ ذهب بعضهم إلى وجود عوامل تؤثر في جمال المحسوسات، ومن هذه العوامل التناسب، والتنوع، والاطراد، والبساطة، والتعقيد، والضخامة، وزعموا إمكان قياس جمال المنجزات الفنيّة إذا اتخذنا الطبيعة معياراً، لأن الفن محاكاة للطبيعة، وادعى بعضهم أن بعض صفات الأشياء كالألوان والأصوات لا توجد في الأشياء على النحو نفسه الذي تبدو فيه لحواسنا، فالجمال هو التجلّي المحسوس لفكر الإنسان، ومقاييس الجمال تتغير بتغيّر المجتمعات والأفكار والأفراد والأذواق، ولابد من الأخذ بمبدأ النسبيّة في تقديرنا للجمال.
في الثقافة العربية، هناك ما يشير إلى أن العربي يميل إلى اعتبار الحكم على الجمال مسألة ذاتية نسبيّة، فالمثل العربي يقول: «القرد في عين أمّه غزال» فأنت إذا أحببت شخصاً ورضيت عنه بدا لك جميلاً، فعيناك هما اللتان تريان جمال الأشياء أو قبحها، وليس الأشياء التي تفرض عليك خصائصها وأوصافها.. ويقول مثل عربي آخر: «لكل فتاة خاطب» إشارة إلى أن الأذواق تختلف، وهذا ينطبق على قول دعبل الخزاعي:
هي النفس ما حسّنته فمحسن
لديها، وما قبّحته فمقبحُ
وهذا ينطبق على القول: «ليس للحسن شكل معروف، ولا هيئة خاصة، ولا حال مستقلّة به لكل ذوق حُسن، ولكل حُسن ذوق» والحسن، على الأغلب، نابع من النفس الإنسانية، فإذا كانت النفس مضطربة خالية من كل جمال، فإنها لا ترى جمال الوجود، أما إذا كانت نقيّة صافية طافحة بالحسن، فإنها تفيض بالجمال على كل شيء حولها، وهذا ما يقوله إيليا أبو ماضي في قصيدته الشهيرة «فلسفة الحياة»:
والذي نفسُه بغير جمالٍ
لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً
للجمال أنواعه المختلفة، وتقسيماته المتعددة وتصنيفاته المتباينة، فهناك جمال أصيل طبيعي، وجمال مصطنع متكلّف، والحسن الطبيعي يُغني صاحبه عن التجمّل بالحلي والمصوغات الذهبيّة والفضيّة والملابس المزركشة، وهناك الجمال الظاهر، والجمال الباطن، وتفضّل الثقافة العربية الجمال الباطن على الجمال الظاهر، و«حُسن الصورة جمال ظاهر، وحسن العقل جمال باطن» كما يقول الفارابي، الذي يلقب بالمعلّم الثاني.. وفي تفريغات هذا التصنيف يقسم الجمال إلى: حُسن الوجه، وهو جمال ظاهر، وحسن النفس هو جمال باطن، ويفضّل العربي دائماً حسن النفس لأنه جمال متنام دائم، على حين أن حسن الوجه جمال متناقص زائل، والشكل الخارجي ليس معياراً للحكم على الإنسان، ويقارن العربي كذلك بين حُسن الوجه والجسم وبين حُسن الأخلاق والأفعال، حول ذلك يقول المتنبي:
وما الحُسنُ في وجه الفتى شرفاً له
إذا لم يكن في فعله والخلائق

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن