ثقافة وفن

كيف يبدأ التعصب؟

| د. خلف الجراد

تعدّ عملية التصنيف المعرفي مسألة مفيدة في حياتنا الاجتماعية بشكل عام، إذ تساعدنا على تبسيط تفاعلاتنا اليومية مع البيئة الاجتماعية والبيئات العديدة المعقدة المحيطة بنا، بالإضافة إلى أنها تبسّط تصوراتنا العقلية والمعرفية ضمن تشكيلات تتوافق مع حاجاتنا السلوكية المختلفة. لكنّ عملية التصنيف قد تصبح خطيرة في وقت ما، إذا ما تحولت إلى قوالب نمطية فئوية ثابتة ومعممة، انطلاقاً من آراء وتصورات وأحكام قاطعة على طبقات أو فئات أو شرائح أو أقوام وجماعات دينية أو عرقية أو لغوية.. إلخ. كما أنها تؤدي بالضرورة إلى استجابات وجدانية متعاكسة الاتجاهات ومتناقضة التقديرات، وصولاً إلى حد التنافر وربما التصادم في نهاية المطاف. حيث أثبتت الدراسات والبحوث الاجتماعية الميدانية أنه عندما نقسّم –عشوائياً- أطفالاً صغاراً إلى فريقين متنافسين، فإن كلاً منهما ينمي عاطفة ومشاعر إيجابية تجاه فريقه، مقابل مشاعر سلبية تجاه الفريق الآخر (المنافس). بل إن هذه المشاعر تظل مستمرة حتى لو توقفت المنافسة بين الفريقين، فما بالك إذا كان الحديث يجري بشأن جماعتين أو عدة جماعات بآن واحد!! والمقصود هنا بالجماعتين: الجماعة الداخلية التي ينتمي الفرد إليها، والجماعة (أو الجماعات) الخارجية التي لا يرغب الفرد في الانتماء إليها، أو لا يسمح له بالاندماج فيها لأسباب مختلفة.
فعملية تصنيف الأفراد إلى الجماعة الداخلية (جماعتنا) والجماعة الخارجية (جماعتهم)، تؤدي إلى تشكل اتجاهات (واعية وغير واعية) أكثر تفضيلاً وتأييداً لأعضاء الجماعة الداخلية، واتجاهات أقل تفضيلاً إزاء الجماعة الخارجية. وهو ما يطلق عليه «تأثير تفضيل الجماعة الداخلية» (دراسات تاجفيل وتيرنر وغيرهما).
وقاد ذلك «تاجفيل» إلى التركيز على دور التشابه والاختلاف في تكوين الجماعات. حيث أرجع التصنيف أو التمايز الذي يحدث عند تكوين الجماعات إلى عاملين: الأول ينزع إلى تأكيد الاختلافات الطبيعية بين الجماعات، فإذا كانت الجماعة قائمة على أساس العنصر، أو السن، أو الجنس أو القومية، أو الطبقة الاجتماعية، أو الديانة، أو بعض التصنيفات الأخرى، تدرك هذه الجماعة أنها مختلفة عن الجماعات الأخرى.
أما العامل الثاني، فهو يقوم على الافتراض أن الأفراد داخل كل جماعة (أعضاء الجماعة) متشابهون أو متماثلون، فالجماعة الداخلية تعتقد أن أعضاءها يشتركون معاً في سمات أو خصائص إيجابية إلى حد «التفوق»، في حين أنها تتصور وتعتقد أن الأعضاء المنتمين إلى الجماعة (أو الجماعات) الخارجية في الأغلب يشتركون في سمات وخصائص سلبية، أو سلبية جداً، أو حتى «متدنية» و«منحطة». مثال على ذلك، الصوماليون المؤيدون لقبيلة الزعيم «محمد فرح عيديد»، كانوا يتصورون أنفسهم على أنهم جماعة داخلية لها سمات وخصائص إيجابية ومتفوقة مشتركة، وينظرون إلى الأفراد الذين كانوا يؤيدون الرئيس الصومالي السابق «محمد سياد بري» على أنهم جماعة خارجية تشترك بخصائص وصفات سلبية وقذرة.
تكمن خطورة «التصنيف الاجتماعي» في خلق نوع زائف من الوعي الجمعي، يؤدي إلى تفكيك التماسك الاجتماعي- الوطني، لأنه يوسّع الفجوة في ثقة الجماعات فيما بينها، ويراكم في الوقت نفسه «سيكولوجيا التناحر» و«التنافر» و«تعميم التصورات النمطية المسبقة»، وذلك من شأنه إضعاف وتهميش عناصر التلاحم والترابط الاجتماعي، مثل: المصير المشترك، والتهديد المشترك، والتشابه، والعيش المشترك، والتكافل الاجتماعي، والثقة المتبادلة. وبالتالي تخفيض مستويات الوعي بهوية اجتماعية مشتركة عن طريق تكوين هوية وطنية بملامح أساسية واحدة أو متقاربة على الأقل.
وينظر عدد من الباحثين المتخصصين إلى «التصنيف الاجتماعي» و«الاستبعاد الاجتماعي» و«التصورات النمطية المعممة»، كلها عوامل تقود إلى الانغلاق والتقوقع على الذات من جهة، وإلى التعصب والنظرة الاستعلائية والإقصائية من جهة أخرى، والردود الارتكاسية أو الانفعالية المتبادلة على هذا الأساس.
وقد بينت الدراسات الاجتماعية- النفسية الجارية في مناطق عالمية عديدة، تشهد نزاعات معينة، أن هناك معدلات كبيرة من «الأعراض العصابية» تنتشر بين الجماعات المنخرطة في هذه النزاعات والتصادمات. كما ظهر أن الأفراد المنتمين لها يعانون القلق والاضطرابات النفسية، وسوء تقدير الأمور، وتصورات يغلب عليها الوساوس والخوف من الجماعة (أو الجماعات) الأخرى، من دون أن يكون ثمة مبررات واقعية لذلك. لكن هذا المعدل الزائد من القلق والخوف من شأنه أن يخلق ويقوي التمييز والتعصب أكثر من ذي قبل.
وقد أجمعت معظم الدراسات المعنية على أن التعصب يشكل أرضية سلبية وغير منطقية وغير عادلة تجاه جماعة ما أو تجاه أعضاء وأفراد هذه الجماعة. إضافة إلى أنه (أي التعصب) ينطوي على أحكام مسبقة أو قبلية بحق جماعة (أو جماعات أخرى)، حيث تدفع المصابين بدائه للانحياز ضد جماعة وأفرادها، استناداً إلى عضوية تلك الجماعة، وليس إلى السلوك الخاص بهذا الشخص ووعيه.
ويؤكد هذا الرأي «براون»، الذي يرى أن التعصب يتصف باتجاهات تتسم بالازدراء، فالتعصب برأيه هو حكم سلبي غير عادل (Unjuctic)، أو حكم خاطئ تجاه أعضاء جماعة معينة. في حين يؤكد عدد من الباحثين الآخرين بهذا الموضوع أن التعصب يتحول إلى جمود تفكير غير منطقي وتعميم مفرط وظلم، وتعدّ كلها عوامل مؤهلة للازدراء والفوقية والاستبعاد والتصادم.
ويشير التعصب عند «روبرت بارون» و«دون بيرن» إلى اتجاه في الأغلب يكون سلبياً ضد أعضاء جماعة معينة بسبب عضويتهم لهذه الجماعة، ويشتمل على معتقدات منمّطة حول هؤلاء الأفراد، ومشاعر سلبية ضدهم، والنزعة إلى معاملتهم بطريقة سلبية.
وهناك فرق طبعاً بين التعصب (Fanaticism) والتمييز (Discrimination) وخصائص كل منهما، وتنوع المقاربات النظرية لهذين الاتجاهين، وعلاقتهما بمسائل الإحباط والعدوان والحرمان من الحقوق والمساواة، وتكافؤ الفرص وغير ذلك.
لكن: كيف يمكن أن نحدّ من التعصب ونواجه بواعثه ومحفزاته وآثاره السلبية على الأفراد والمجتمع؟!. هذا هو التحدي الكبير، والفكرة المحورية لمقالنا القادم..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن