تدمر.. الأعجوبة… لؤلؤة الصحراء
د. علي القيّم:
«لنتحد من أجل حماية التراث» عنوان حملة عالمية، أعلنتها «إيرينا بوكوفا» المدير العام للمنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» وتبعتها تصريحات ونداءات وأصوات عالمية غاضبة تعلن استنكارها لما حدث في مدينة تدمر الأثرية المسجلة على لائحة التراث العالمي باعتبارها من إرث الإنسانية الذي يجب الحفاظ عليه وصيانته وترميمه.. الحملة مستمرة، وتحمل في مضامينها ومعانيها مشاعر الخوف البالغ أن تلقى «لؤلؤة الصحراء» ومدينة المجد والأعجوبة التي لا وجود لمثيلها في العالم، المصير الذي لقيته مدينة نمرود العراقية ومتحف نينوى ومعلولا وغيرها.. الحملة الإعلامية الكبيرة على شبكات التواصل الاجتماعي لم تنقطع وجميعها، وبلغات عالمية كثيرة، تحمل عناوين لافتة: «أنقذوا تدمر» «آثار تدمر إرث حضاري يخصّ العالم كلّه، والعالم مطالب بحمايته» «أنقذوا تدمر من الهلاك»، «حضارة آلاف السنين مهددة بالزوال والعالم يتفرجّ» «تدمر خارج خريطة الحضارة الآن».
الذين زاروا تدمر وعرفوا عظمتها وروعتها وعنفوان ملكتها «زنوبيا» وجمالية الآثار الموجودة فيها، التي جعلتها لوحة فنية خالدة لا مثيل لها في العالم.. لا يمكنهم أن يتصوروا أنها أصبحت في حضرة الإرهاب.. لا يمكنهم أن يتصوروا أن هذه المدينة التي تعود أقدم آثارها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، والتي اشتق اسمها من «تدمرنا» والتي تعني بالآرامية «الأعجوبة» وكانت مدينة القوافل الكبيرة، وكان لفرسانها وجودهم الكبير في مسيرة الحضارة.. لقد ملؤوا الصحراء حياة على طريق الحرير العالمي.. الذين زاروا تدمر يعرفون جيداً، عندما زارها الامبراطور «هادريان» عام «129م» أظهر مدى إعجابه بها، ما دفعه إلى إطلاق اسم «هادريانا المدينة الحرّة» ومنحها الوضع الذي يؤهلها لسن القوانين والأنظمة لتكون مدينة الفن والتجارة والصناعة والثقافة العالمية، ومدينة أقدم وأكمل «لوحة جمركية» في العالم تعرف باسم «لائحة بوتنجر».
في «تدمر» تعانقت حضارات العالم القديم، يقول المؤرخ «إيبان»: «تجار تدمر كانوا يجلبون من بلاد فارس منتجات الهند وشبه الجزيرة العربية، ليبيعوها مجدداً للرومان» لقد تجلّت عبقرية التدمريين في إعداد نظام للقوافل قادر على اجتياز مئات الكيلومترات من الصحراء، بين مدينتهم وحوض الفرات، فقد كانوا أبناء الصحراء، ويعرفون كيف يشكلون فريقاً يقود القوافل.. تجار تدمر كانوا يستوردون الحرير الخام من الصين، ثم يقومون بتحضيره بأسلوبهم الخاص، بدليل عثور علماء الآثار على نماذج تدمرية من المنسوجات الحريرية في أماكن متفرقة من أوروبا، وبفضل ما كانت هذه المنسوجات تتمتع به من مواصفات في غاية الدقة والجودة، استطاع التدمريون أن يحققوا ثورة في عالم الأزياء في مصر، وأصبحت مثلاً أعلى يحتذى في بيزنطة، فقد كانت تتمتع بنعومة الملمس، وحسن الصنعة، والحواشي المزخرفة بالرسوم المتشابكة.
عظمة تدمر لم تتوقف عند هذا، بل امتدت لتشمل المعتقدات والطقوس الدينية المتطورة، والفن الرائع الذي حافظ على تقاليد سورية رافدية متأصلة في أقدم العصور، وقام بتطويرها بتأثيرات هندية- فارسية هلّينستية- رومانية، فكانت منحوتاتها خاضعة لقواعد شرقية، تتميز بقوة تعبير رجالها وتقشفهم ونبلهم وجمال النساء وترفهن، وسمات مشتركة في الثياب والحركة والزينة، التي لا مثيل لها.. البديع العمراني في تدمر لا حدود له.. ما جعل الباحثين الذين عملوا في تدمر، مدة طويلة، يشعرون شعوراً خفياً، أن هذه المدينة الخالدة لم تكشف كل أسرارها، وما زالت تحتفظ بقسم وافر منها، وأنها تهيئ كثيراً من المفاجآت للمستقبل.. العمراني التدمري من الحقائق المعقدة جداً، لأنه ليس هلينستياً ولا رومانياً، بل مزيج منهما من أصالة سائدة بوضوح، جاءت قبل ذلك بكثير.. لقد وجدت في مدينة تدمر مرونة عمرانية رائعة في المباني العامة والدينية، وكانت المثال الذي يحتذى في كثير من دول ومدن العالم، لدرجة أن أحد الباحثين، شبّه العملية العمرانية التي قام بها عمدة باريس «هوسمان» في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بالشارع المستقيم في تدمر.
لقد كتبت مئات الكتب والدراسات عن تدمر، وسوف يكتب في القادم من السنوات المئات، وسوف تظل البشرية، مهما حدث، ومهما كان الثمن الذي ستتكبده تردد مع الشاعر التدمري برهان الشليل:
أنا تدمر أنا تدمر حديث عاطر أخضر
أنا زنوبيا السمراء أنا المجد الذي يكبر
أنا فنّ ورمل ونخل أنا التاريخ والأعصر
تباهي اليوم يا تدمر وغني مجدنا الأكبر
سلاماً أنت قافيتي وأنت الحب ما أسكر
وأنت البوح والأحلا م والأمجاد يا تدمر