بياض الصّمت وعودة الأيدي.. الشاعر المثخن بالجراح بين يدي العرافة
| نجاح إبراهيم
لطالما رغب المبدع أن يجرح البياض الممدّد أمامه، متمثلاً بتلك الورقة البلهاء المستلقية على الطاولة، التي تخاتله حيناً، ويخاتلها أحياناً، تعذبه بنظراتها الفارغة الباعثة على الدّهشة، ويعذبها حين يشنّ عليها هجوماً مروّعاً، يضاهي هجوم التتار في حروبهم!
فيلمس فيها بياضاً أحمق، صمتاً مميتاً، يسعى إلى رشقه بالحبر، وعملية الرّشق هذه تعني خلاصة فكره وتأمّله، التي يجسّدها إبداعاً يحمل رؤاه، وبالتالي يحمل بصْمته.
ولكن ما معنى أن يترك مبدعٌ متعمداً بياضاً على الصّفحة الشعريّة التي حبّرها؟!
أمل دنقل، شاعر مبدع ولاشك، منذ قصائده الأولى فعل ذلك، لا تكاد تخلو قصيدة من البياض، وهذا البياض عبارة عن أسطر فارغة، ليس فيها سوى نقاط، فمرّة تكون أربع نقاط (….) ومرّة ثلاثاً (…)، ومرّة نقطتين (..).
من قصائده التي كتبها في الستينيات من القرن الفائت قصيدة «عشاء»:
«ولم يرد واحد منهم تحية المساء!/ وعادت الأيدي تراوح الملاعق الصّغيرة، /في طبق الحساء/
نظرتُ في الوعاء:/ هتفتُ:«ويحكم.. دمي، / هذا دمي.. فانتبهوا/».
ترى ما كان يرمي إليه، بتركه ذلك السّطر الفارغ من الكلمات، المنقط فقط؟!
هل هي رغبة منه في إشراك القارئ لأن يضع أفكاراً تلائم القصيدة، أو تكمل المعنى؟
يقول «مالارميه»: «إن للبياض في القصيدة أهمية لافتة للنظر، فالنظم يقتضيه، باعتباره صمتاً يحيط بالقصيدة».
إن المتأمّل للقصيدة يرى أن النظم لم يكن يقتضي الصّمت بقدر ما الشاعر بحاجة كبيرة إليه، حيث لم يشأ أحد أن يردّ عليه السلام حين قصد هؤلاء في موعد العشاء، كانوا منهمكين في تناول الحساء، في حين يدخل الشاعر في صمته المملح، ينظر إلى الوعاء شغل هؤلاء الشاغل، ليهتف بعد برهةٍ، معتقداً أنه المسيح، وأنّ ما يحتسونه إنّما يكون دمه، فلينتبهوا، ولكنّهم غير آبهين.
كان البياض في القصيدة، أو السّطر الفارغ من الكلام، أحوج ما يكون إليه الشاعر، أنه يُشبه الخلفية اللازمة لذلك المشهد الذي يؤثر في النفس أكثر حين تلازمه، وهذا ما يؤكده الناقد عبد السلام المساوي، في كتابه (البنيات الدّالة في شعر أمل دنقل) يقول: «إذا كان البياض صمتاً، فإن هذا الصّمت ليس محايداً ولا يدل على مطلقيته، أنه صمت وارد في سياق شعري، سواء أكان هذا البياض مؤكداً بنقط، أم مفروضاً من خلال تموقع النّصّ في الصّفحة..» ص40
وقد يزداد البياض في قصائد دنقل الأخرى، كما في قصيدة العرّاف الأعمى، إذ كلّ مقطع يحتاج صمتاً، أنه يفسحُ للبياض حضوراً، أو تحسبه نوعاً من التقديس، بمعنى، هروب الكلام في حضرة الصّمت، وأحياناً أخرى تعتقد أن البياض جريء، بإمكانه أن يلتهم الكلام لدى الشاعر، وتظن – أن بعض الظن إثم – أن الشاعر عجز عن إتمام
فكرته، أو نفد الكلام – القوالة خلصت – فرغب من القارئ أن يملأ الفراغات:
«قولي من أين؟/ الصّمت شظايا / والكلمات بلا عينين! /
أيّ وجوه تتدلى منها بسمات الزّيف / ضائعة المعنى، متآكلة الأنف، /
في طبق اليوم / مَنْ يمسح عنّي عرقي في هذا اليوم الصّائف؟/
يتمدّد من تحتي، يفصلُ بين الأرض.. وبيني! /
في قصيدته ( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ) يلجأ الشاعر إلى العرّافة مثخناً بالجراح، منكسراً، فيسأل عن ساعده المقطوع والذي ما يزال يمسك بالرّاية المنكسة، وعن وقفته العزلاء بين السّيف والجدار، وعن صرخة المرأة بين السبي والفرار، وعن..
نسوة يُسَقن في سلاسل الأسر / وفي ثياب العار /
مطأطئات الرأس / لا يملكن إلا الصّرخات التاعسة /
ترى ماذا أراد أن يقول عن هؤلاء النسوة أكثر؟!
ولمَ اكتفى الشاعر بتلك الفراغات؟ وهل هناك من يعرف التتمة؟!
من الممكن أن يقبض القارئ على صمت دنقل، فيملأ الفراغ بعد تفكير وتأمّل، وقراءات عديدة، ومن الممكن أن يقبض مباشرة على صمته ويملأ الفراغ كما في قصيدة ( قلبي والعيون الخضر ) حيث قال:
أعلمه الرّماية – كي يفوق بقية الأقران،
«فلما اشتدّ ساعده..»
وقد يكثر البياض في القصيدة، فيجيء سطوراً متتالية، وليس سطراً واحداً في مقطع كما في قصيدة (ماريا):
قولي يا ماريا / أو ما غنيت لأوّل حبّ / غنينا يا ماريا /
أغنية من سنوات الحبّ العذب /
ما أحلى النغمة، / لتكاد تترجم معناها كلمة، كلمة /
مَن أخذ الشاعر إلى كلّ هذا البياض؟ إلى كلّ هذا الصّمت؟ أهو الحنين إلى سنوات الحبّ العذب الذي فُقِدَ؟ ترى ما الذي ألجم قلم دنقل وأسكته، وعند مروره بالأسطر ترك آثاراً فقط تدلّ على مروره، هذا المرور المؤلم، المكابد.
وما يؤلم أكثر أن الشاعر المُرهف لم يكن بياضه، صمته على الورق فقط، بل امتدّ في أواخر عمره إلى المكان الذي آل إليه إبان مرضه، إلى المستشفى الذي ألزمه بغرفة لها رقم /8/ والتي كتبَ فيها قصائده الست الأخيرة، ضد من، الطيور، الخيول، زهور، لعبة النهاية، الجنوبي – هذا ما أكدته عبلة الرّويني، زوجة الشاعر الرّاحل – حيث تمنى في آخر قصيدة أن يلاقي اثنين الحقيقة، والأوجه الغائبة.
لقد كان البياض موجوداً في كلّ ما يراه الشاعر في هذا المكان، ولكننا لم نلمح أي بياض في قصائده السّت، خلاف قصائد ما قبل مرحلة المرض، لم يترك الشاعر أي سطر للقارئ ليملأه، وإنّما جنّد نفسه وتصدّى لكلّ بياض، لكلّ صمت بحبره، كان يقاتل وهو على سريره البياض الحقيقي الذي يلفه من كلّ جانب، يقاتل بياض الأسرّة في غرف العمليات، حيث نقاب الأطباء أبيض، ولون المعاطف أبيض، وأردية الرّاهبات والملاءات، والجدران، فأراد أن يسحق البياض بحبره، فلا يترك شيئاً منه، لأن في قرارة نفسه أن السّواد هو نفي للموت، نفي للكفن، للصّمت، وهو لون النجاة من الموت، وإمعاناً منه يريد أن يقاوم الموت الذي زحف إليه، أن ينجو منه، هذا الذي حاصره، وجعله يلتصق بالسرير فشكلا جسداً واحداً في انتظار المصير.
لهذا كله قلّ بياض الشاعر في قصائد المرض، وكثر توتره وخوفه وقلقه من الرّحيل قبل أن يقول ما لديه، فعدم تركه للأسطر المنقطة، هو رغبته في أن يكون له حضور وقدرة على الحضور الدّائم في القصيدة، في حين في السّابق كان يترك مساحة للقارئ ليشاركه القصيدة، تأملاً وإبداعاً وحياة، أما في قصائده الأخيرة فالحياة تهربُ منه، فكيف يتقاسمها مع قارئه؟
والمفارقة أن البياض لم يكتف بالزّحف من الصّفحة الشعرية إلى المكان الذي يحيط به، إنّما امتدّ أكثر، وصار مدى بعد أن سمع دنقل أغنية يا ناعسة خلصت مني القوالة، وضغطت تلك الأصابع على زر آلة التسجيل لينتهي كلّ شيء إلا الصّمت الطويل الذي احتلّ الزّمان والمكان.