سورية كلها «مفيدة»
| بيروت – محمد عبيد
اعتادت الولايات المتحدة الأميركية تقديم وصفة جاهزة موحدة لكل الأزمات في دول المنطقة العربية والإسلامية باعتبار أنها هي من تخلق هذه الأزمات بعدما تهيئ ظروفها وأسبابها وأدواتها ومن ثم تعتقد أن من يوجِد الداء فهو بالتأكيد لديه الدواء. واعتادت كذلك أن تتعاطى مع شعوب المنطقة بمعيار واحد ظناً منها أن هذه الشعوب تمتلك المخزون الحضاري والثقافي والديني ذاته دون الأخذ بالحسبان التطور والتغيير الذي يطول تلك الشعوب فضلاً عن المعاناة والتجارب التي تمر بها فتصقلها وتعيد تشكيلها على الصعد كافة وأبرزها السياسية.
وهي لذلك، ومنذ بداية الحرب الكونية على سورية، سعت إلى تقديم هذه الوصفة على مراحل متدرجة استنساخاً لما كرسته بالطريقة ذاتها في ليبيا. فمن مجلس وطني للمعارضة إلى إئتلاف وطني معارض ثم إلى قوى عسكرية متطرفة أو إرهابية لا فرق توجِد أرضية للاستعانة بقوى خارجية عبر مناطق عازلة أو مناطق حظر جوي ومن بعد ذلك تحالف دولي إقليمي يتشارك تشكيل حكومة مؤقتة لقبول العشائرية للشعب بما يضمن التجزئة والتقسيم أو على الأقل الفدرالية أو الكونفدرالية بحجة أنها ليست تقسيماً بل صيغة تشاركية في الحكم! إلا أن آخر إبداعات المشروع الأميركي وأدواته في المنطقة تمثلت بمحاولة إشاعة فكرة التقسيم المُغلف بواقع القبول بفشل مشروع إسقاط الدولة في سورية ومن ثم الإقرار بسيطرة هذه الدولة وسيادتها على جزء من الأراضي السورية وبالأخص منها المدن والمناطق الرئيسية الحيوية الآهلة بأغلبية سكانية تحت عنوان «سورية المفيدة» والترويج بأن النظام هو من يسعى إلى هذه الصيغة ويكتفي بتحقيقها والتوقف عن استكمال عملية تحرير باقي الأراضي السورية. وفي المقابل، السعي إلى حماية المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة المسلحين على اختلاف تسمياتهم وخلفياتهم بهدف تكريس واقع يسحب زمام المبادرة الميدانية من أيدي الجيش العربي السوري وحلفائه ويُحسِن الوضع التفاوضي لرعاة هؤلاء المسلحين على طاولة رسم خريطة النفوذ الدولي في المنطقة العربية والإسلامية انطلاقاً من سورية.
سعت واشنطن من خلال موافقتها على صيغة وقف العمليات القتالية في سورية إلى تحويل فكرة التقسيم المُغلف هذه إلى حقيقة عبر محاولة فرض آلية مشتركة مع موسكو تمنحها حق المراقبة والتدخل في حال عدم التزام الأطراف العسكرية الموجودة على الأرض بتلك الصيغة. إلا أنها جوبهت بالتحضيرات الروسية المسبقة لآليات المراقبة عبر مراكزها المنتشرة في أكثر من منطقة سورية، إضافة إلى الخطة المعدّة لاستكمال وقف العمليات بمبادرات لإتمام مصالحات أهلية أنجزت ما لا يقل عن خمسين منها في مساحات جغرافية واسعة جداً كما أنها شملت بعض المسلحين الذين أبدوا رغبة بتسوية أوضاعهم ومؤازرة الدولة في استعادة السلم الأهلي بين مكونات الشعب السوري، الأمر الذي شكل إحراجاً كبيراً لواشنطن التي كانت تراهن على الاستثمار على هؤلاء المسلحين وأمثالهم كي تجد لنفسها موطئ قدم فعلياً على الأرض السورية بعدما فشلت ما تسمى «قوى المعارضة» التي عولت كثيراً عليها واستثمرت فيها بمئات ملايين الدولارات بتوفيرها لها. الأمر الذي منعها أيضاً من التفكير باستخدام «داعش» و«النصرة» ولو بالوساطة السعودية أو التركية أو القطرية لإيلام النظام السوري وحلفائه كما كان الحال مع «القاعدة» لضرب الاتحاد السوفييتي السابق في أفغانستان، بعدما باتت المواجهة مكشوفة.
استطاعت دمشق وحلفاؤها من خلال الخطوات الميدانية التي قاموا بها إثر البدء بتنفيذ اتفاق وقف العمليات القتالية تكريس التصنيف الذي أرادوه للمجموعات المسلحة غير الشرعية الموجودة على الأراضي السورية، ومن ثم التحكم بترتيب أولويات المواجهة مع هذه المجموعات عبر تعزيز جبهات ما وتبريد أخرى والاندفاع بثالثة نحو التحرير الكامل للتراب السوري على قاعدة أن سورية لا يمكن أن تكون مفيدة إلا إذا كانت موحدة.