ثقافة وفن

منحوتات زهير خليفة متحف فني يغفو في حضن الجبل

| صبا العلي

ينفرد الفنان التشكيلي زهير خليفة في تجربته مع النحت بعفوية وصدق فني قل نظيرهما فهو يستعير أدواته ومفرداته الفنية من الواقع والمحيط الجغرافي والإنساني مضيفاً إليها أشياء من الحلم وعناصر من التاريخ والتراث المادي الذي ينتمي إلى بيئة الريف وكيف لا وهو ابن الجبل البار المقاوم قولا وفعلا وفنا، عارك الصخور فطوعها واحتضن الجذوع فأبدعها فكان آخرها منحوتة بانوراما العملاقة التي جسدت أسطورة الجيش العربي السوري بكل أبعادها ومعانيها السامية.
ليست منحوتات خليفة وليدة اللحظة الآنية إنها وليدة تجربة عميقة خطها الزمن بكل مفرداته ومكوناته الفنية، وأجمل ما فيها جنوحها للبساطة والإبداع المتناهيين، فزهير خليفة يكره المجهول والمبهم ويعشق الوضوح ليس لكونهما مخيفين بل لكونه صادقاً في رؤية الواقع كما هو مضاف إليه حلم ولدته فكرة وموقف أرخيا بظلالهما على موهبة ترجمتها أنامله إلى منحوتة لا ينقصها سوى قلب ينبض لتتحرك بصمت أنيق مفعم بالحب والسلام والتسامح وهذا ما حدا به لاستحضار التراث الشعبي وعناصر التاريخ بكل رمزيتها ومثلها العليا. هكذا عبر خليفة عن مسيرته الفنية في حديثه لصحيفة «الوطن» خلال زيارتها موقعه الفني الذي سماه القلعة والذي يتوسط سلسلة جبال الساحل – الغاب حيث الطبيعة الخلابة والجبال الشامخة وغابات السنديان والحور لينسج خطوط فنه ويقيم عالمه الأشبه بالسحر ويبني قلعته الحصينة كمتحف تاريخي يؤمه الزائرون من أبعد الأماكن فيستريحون ويلقون همومهم على صخور الجبل بعد أن روضتها يداه بإرادة لا تقهر.
يبني خليفة نماذجه على عنصرين أساسيين هما الأنثى والطبيعة في تداخل خلاق يقارب معاني الكمال الإلهي بسموها ورفعتها، فالأنثى كما يقول أجمل مخلوقات الأرض فترى عشتار وحورية البحر ونساء ريفيات، الأم والجدة بكل تفاصيلها وتقاسيمها طاغية على نماذجه التي اختارها بعد أن أجرى معها حواره الداخلي وأطلق مكنوناته حيالها فظهرت للعلن بانسيابيات الجسد وتقاسيم الوجه وحركة اليد وغيرها.
ويقول عندما أفكر في الصخور التي تركن حولي أشعر أني بحاجة لخمسة آلاف سنة كي أفرغ منها ويبقى الكثير مما لم أنجزه، فالحجر يغريني أكثر من الخشب وعلاقتي به أزلية تعكس علاقة الكون مع الوجود وما من حجر كبير أو صغير إلا وله شأن ما ومكان ما وربما إقبالي عليه بهذا النهم يعكس ثورة التحدي التي بدأتها معه حتى غدا مطواعا لينا يرتاح بين أناملي بإرادة العمل، فتكويناته وأشكاله التي أبدعها الخالق تولد الفكرة في عالمي فأمسك به بعد أن ارتسمت في مخيلتي صورته مسبقاً لأضيف إلى صنع الخالق المكتمل ما لا يمكن أن يكتمل، باختصار الحجر أقوى مادة في الكون والذي بيني وبينه يصعب شرحه إنها علاقة روحيه فلكل حجر ثابت أو متحرك أو ملون مهام متعددة، فقط أعطني إياه واتركني أركن إليه.
حالة التوازن تطغى على أعمال خليفة والتاريخ حاضر بقوة فيها من هنيبعل إلى عشتار الأم والزوجة وغيرها من الرموز التي تركن في زوايا القلعة وأجمل ما في عشتار التي صنعها من جذع زيتونة يدها اليسرى التي أبقاها على صورتها كشجرة ممتدة إلى السماء إيمانا منه بريشة الخالق التي أبدعها. ومقاسات المنحوتة متناسبة الأبعاد من دون أن يقيس فهي بالنسبة إليه حالة عفوية يقرؤها في عيون متابعيه من دون أن يحتاجوا إلى شروح ولطالما تخرج في مدرسة الطبيعة والحياة من دون أن يكون أكاديميا فالبساطة في تقديم الواقع المعقد للناس مطلب روحي في فنه حسب تعبيره.
قلعة خليفة التي تزخر بالتماثيل المنتمية إلى التراث الشعبي وأبجدية التاريخ حالة فنية لا تنفصل عن الوطن، وتمثال البانوراما العملاق خير شاهد فهو يحكي قصة الأزمة عبر تصويره أسطورة الجيش السوري مجسما بثلاثة تماثيل من الجنود ملتصقة ببعضها جندي شهيد وآخر جريح وآخر منتصب يحمل في حضنه طفلا وبيده علم الوطن ركنه خليفة على الطريق العام وفي مدخل القلعة كأمثولة للبطوله التي خاضها جيشنا وكشاهد على رسالة الفنان التي لا تنفصل عن ألم الوطن بماضيه وحاضره.
زهير خليفة 45 عاماً من قرية /بيت ياشوط… حي غصونه/ أسس ملتقى رواسي جبلة وجبالها الأول/ بالمشاركة مع الفنان حسن سليمان والتشكيلي عامر علي/ الذي أقامه في قلعته وشارك فيه ستة نحاتين من مختلف المحافظات السورية وفنانون تشكيليون مؤكداً أن الملتقى الثاني والثالث سيكون بشكل مهرجان فني كبير لإحياء التراث المادي واللامادي من شعر ونثر وأسواق شعبية وأدب وفن ما حدا بالفنان أنور الرحبي الذي زار قلعته إلى تكريمه بمنحه شرف الانتساب إلى نقابة الفنانين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن